مظلومون أولئك الشعراء الذين كانوا يلوذون بقصور الخلفاء ويغشون مجالسهم، ويعمرون نواديهم بالمؤانسة والمطارحة، والمهارشة والاستثارة، ثم هم لا يستطيعون أن يحبسوا ألسنتهم عن قول الحق إذا عرضت قول الحق، ولا يستطيعون أن ينكروا ذواتهم، ويفنوا في الخليفة فناء مطلقا ليرضوا غروره، وبشعوره بأنه هو ولا شيء معه، مما يمشي على ظهر الأرض، أو يسبح في جو السماء.
مظلومون أولئك الشعراء لأنهم كانوا يقدمون على الخلفاء دون أن يدرسوا نفوسهم، ويتعرفوا على ما أصابهم من الغرور الذي لا يسمح لشيء أن يقول: هاأنذا!
ولقد يحدثنا التاريخ عن كثير من الشعراء كانوا فريسة سهلة لبعض الخلفاء، وما كان لهم من جناية إلا أنهم عرفوا أنفسهم ولم ينكروها، وتحدثوا عنها دون تحرج أو مخشاة، فأصابهم من ذلك ما أصابهم من إهانة وحرمان، أو ضرب وإعنات، أو هلاك وإتلاف.
وفي الحق، إن الخلفاء كانوا بذلك ينشرون النفاق على أشنع صورة وأبشع وجه، وكانوا يحبذون الملق في أوسع مدى، وبأقوى أنواع الاستحثاث؛ حتى صارت صحيفة الشعر العربي ربداء دكناء بشعة، وصار قوامه الملق المزري، والتزلف المقيت وحتى كاد يخرج عن حدود الشعر، بعدم انبعاثه من الشعور وبانبثاقه عن نبع الطمع والملق، لا عن إعجاب بالممدوح، أو حب صحيح له.
لقد فهم الشعراء أنهم حين يسعون إلى الخلفاء، ينبغي أن تتوجه عيونهم وعقولهم، وأن تتوجه ألسنتهم وقلوبهم، وان تتوجه شهادتهم وأحكامهم، ينبغي أن يتوجه ذلك كله إلى مرضاة الخليفة، وإشاعة السرور في نفسه، وإدخال المرح على قلبة، وإلا فليس هناك إلا السطوة المردبة والبطشة الكبرى.
هذا الفرزدق بن غالب، وقومه من تميم من هم، حيث العدة والعديد، والبذل والجود، والشهامة والأنفة، دخل على سليمان بن عبد الملك فرغب إلية سليمان أن ينشده، فظن الفرزدق أنه يريد شعرا صادقا، فأنشده:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة، من جذبها بالعصائب