إذا استوضحوا نارا يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
ماذا دهاك - يا فرزدق - فتذكر غالبا أباك، وتثني على كرمه هذا الثناء الحر، لقد غاظ ذلك سليمان بن عبد الملك فبرم بالفرزدق، وتغير لونه، وأشار إلى نصيب أن ينشده فأنشده حتى أرضاه، مدحا كذوبا مزورا، وخرج نصيب يحمل سني الجوائز، وخرج الفرزدق صفر اليدين، ليقبض جوائزه من أبيه الجواد، كما سخر منه بذلك سليمان.
وربما كان الخذلان والحرمان أهن ما يلاقي شاعر تحدثه نفسه أن يظهرها أمام خليفة جائع إلى كذاب التمداح، وربما كان الفرزدق من عشيرته الباذخة المجد ما يحميه من صولة سليمان إذا ما فكر سليمان أن يصول عليه، وربما كان لسياسة أميه في الرفق ولتحلم مندوحة عن السطو والتهور.
ولكن يحدثنا التاريخ كذلك أن هشام بن عبد الملك، دخل عليه - إسمعيل بن يسار فاستنشده فقال:
إني وجدك ما عودي بذي خور ... عند الحفاظ، ولا حوضي بمهدوم
أصلي كريم ومجدي لا يقاس به ... ولي لسان كحد السيف مسموم
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب ... من كل قوم بتاج الملك معموم
ويستمر إسماعيل يغالي بنفسه، ويعرف لقومه حقهم. وهشام يتقدم قومه غيظا منه، ويغلي صدره حفيظة عليه، ويفكر ويطول تفكيره في البطش به. ثم يجبه بهذه القولة المائنة الشائنة، الظالمة الغاشمة (أعلى تفخر؟ وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاح قومك؟!) ثم لا يطفئ غضبته، ويهدئ ثائرته، إلا أن يأمر بغطسه في الماء، حتى لتكاد روحه أن تخرج ثم تخرجه الزبانية - وهو يشر - لينفي من وقته إلى الحجاز.
وربما زعم بعض المؤرخين أن هذا إنما هو أخذ على يد الشعوبية، وكسر لهذه العصا الأعجمية التي ترتفع في وجه العرب، وظني أن هذا يصح كعذر يتخذه الذين يجنحون لتبرئه هشام وحمل عمله هذا على بعد النظر السياسي، ولكن ماذا ترون في قولة هشام: أعلى تفخر، وتتمدح بأعلاج قومك: ماذا نرى إلا هشاما كبر عليه أن يرى الشاعر نفسه شيئا وأن يثبتها في حضرة الخليفة الجليل، وقد كان الخليفة ينتظر من الشاعر أن يصرف