لقيت مختارا أول ما لقيته في باريس عندما ذهب إليها لإكمال دراسته في (مدرسة الفنون الجميلة).
كنا جماعة من الشبان المصريين نسمر في بعض قهوات (الحي اللاتيني) والحي اللاتيني يومئذ مجمع الطلاب ومسرح الشباب، فهبط علينا فتى اسمر اللون رقيق الجسم، فيه وداعة وفيه حياء، تعرف من سحنته ومن سمته ومن حديثه انه ريفي، وتلمح في نظراته التائهة أن استعداده الفطري يوجه بصره إلى مرمى بعيد، ذلك الفتى هو (محمود مختار) وقد اخذ يعرض علينا أوراقا كان يرسم فيها أبطالاً من العرب كخالد بن الوليد وغيره ممن حفظ التاريخ فعالهم ولم يحفظ مثالهم.
وكنا كلما اجتمعنا بعد ذلك بمختار في الحي اللاتيني، طالعنا بثمرات عمله، وحدثنا في فنه الذي يكب عليه، ويوجه كل همه إليه، فأحببنا مختارا لما في شمائله من البساطة والتواضع والصفاء، وأحببناه لشغفه بفنه الجميل، ولما توسمنا فيه من مخايل النبوغ.
ثم غمر الفن مختاراً واستحوذت عليه الأوساط الفنية، وغمرتنا في الحياة شؤون اخر، فافترقنا زماناً، وسمعت ذكر مختار حين برزت آثاره الفنية في الميدان، وعرضت في معارض الفن في باريس، فنالت من أسنى الجوائز وشهد لها بالبراعة كبار النقاد.
وسمعت ذكر مختار حين صور لنهضة مصر تمثالا تجمع فيه للوثوب أبو الهول حتى كاد ينتفض انتفاضا، فهتفت مصر كلها باسم النابغة مختار.
رأيت النابغة مختاراً فإذا الشاب النحيف الأمرد، قد استوى رجلا مفتولا اصلع الهامة، طويل اللحية، عريض الصوت ضخم الملامح، طبعه الفن بطابعه، وألقى عليه من حب الجمال وفهمه جاذبية أيهل الجمال، ديمقراطي النزعة، أرستقراطي الذوق، يعجبك حديثه وجدله، وإن كان حديد الطبع سريع الرضا والغضب، في نفسه فيض من الصبى والمرح، كأنما هو على مر السنين يزيد.
منذ ذلك العهد تكررت فرص لقائنا في السفر والحضر، فشهدت مختارا في عمله جاهدا مثابرا مجدا، حتى حسبته لا يعرف اللهو، وشدت مختارا لاهيا مرحا، حتى ظننته لا يدري