كتب الكثيرون في هذا الموضوع، وتناولوه من نواحيه المتعددة بحيث لم تبق لنا بقية نحكيها ولا فضلة نذكرها. وإذا كنت أمسك بالقلم الآن لأخط هذه الكلمات فليس ذلك عن تحد لهؤلاء الذين لفكرة الله قبل الآن، بالبحث والدرس، وإنما أفعل هذا عن إيمان بأنني سوف أنظر إلى الموضوع نظرة عكسية، وأنني سأنصرف إلى جانب غير الذي اهتموا به، وبذلوا عنايتهم من أجله. وأحب أن أرفع الخوف عن القارئ من إثارة هذا الموضوع مرة أخرى، وأود أن أزيل عن نفسه كل حرج أو إشفاق من مواجهة مسألة الألوهية مواجهة صريحة فأنبئه مسرعاً بأنني سأبحث مشكلة الإنسان ذاته. وستجد نفسك قادراً بعد توضيح بسيط على أن ترفع هذا العنوان لتضع بدلاً منه عنوان آخر يتصل بالإنسان ومشاعره فوق الأرض وباحساساته في الحياة. إذ أنني أومن نماماً بأن فكرة الله، كما حملها إلينا تاريخ الفلسفة، لا تصور الله ولا تقرِّب مفهومه من أذهاننا، وإنما تعطينا فكرة صحيحة عن الإنسان نفسه من حيث مطامعه وشهواته وخواطره وآرائه ومخاوفه وملاذه.
فكرة الله عند الفلاسفة والمفكرين هي كتاب حافل بأحاسيس البشر وتاريخ ثابت لانفعالات الناس ومجلد مشحون بالعواطف والمشاعر عند ما تطورت على مر العصور. والحقيقة الإنسانية تتكشف، أكثر ما تتكشف، من مراجعة هذا السجل الحاشد ومن تأمل هذه الخطرات الوافرة. فليس يفيدك تأمل الأفعال العادية التي تأتيها الجماعات أو النظر في أمور معاشهم والمخالطة لهم في الحياة العامة بقدر ما يفيدك التفكير في هذه الصور التي يعرضها عليك المفكرون عند تدبرهم لصفات الله وتحقيقهم لمشكلة وجوده.
وقديماً تنبه إكسانوفان لهذه الحقيقة على نحو بسيط عندما قال إن الإنسان يصور نفسه في آلهته، وإن هذه الأرباب من صنع الناس وابتكارهم. ولم يكن أمام إكسانوفان الفيلسوف اليوناني عندئذ غير هذه الآلهة التي صوَّرها الشعراء السابقون على عصره كأمثلة يقدمها