بدأت هذه القصة منذ أربعين سنة، ولم تكن هذه الظهور موحشة مقفرة كما تراها اليوم، ولم يكن القصر مهجوراً خرباً، بل كان حافلا بالأنس، فياضاً بالنعيم، يمرح فيه الصبا، ويضحك الطهر، وإن كان قد خلا من هيبة السلطان، وهجره الجند والأعوان، بعد ما قضى بـ (مذبحة عين داره) الأمراء التنوخيون سادة الجبل، ودالت دولتهم وذهبت أيامهم، فلم يبق لسيدي الشيخ ناصر رحمه الله (مشيخة) بعدهم على هذه البقاع، وكان هو (شيخها) وحاكمها - فما خلال من النبل والفضل، ولا هجره العافون ولا الوافدون، بل كانوا يؤمونه أبداً فينصرفون وقد حفل وطاب كل واحد منهم بما يشتهى وما يريد من مال الشيخ ومن طيب قلبه، ونبل نفسه، وإشراق وجهه، فكان مجده في عزلته أكبر من مجده في إمرته.
وكانت ربة القصر قد مضت جميلة طاهرة كزنبقة الجبل، شابة ناضرة كطلائع الربيع، وكانت تنشر عطر الحب أينما سارت فتترك حبها في كل قلب، فلما تولت أبقت في كل قلب أعطر الذكريات، وأحر اللوعات، ورعى سيدي الشيخ عهدها، وحفظ ودها، فلم يحل محلها من قصره أو فؤاده امرأة غيرها، ووقف نفسه على ولديها: علام وليلى، فكان لهما من بعدها أباً وكان لهما أماً، ولم يكن في القصر امرأة إلا أنا، وكنت غضة الإهاب، ريانة الشباب، فكنت أقوم على خدمتها وتربيتهما.
وكنا نعيش سعداء لا ندري ما الهموم، ولا نسأل عن الغد، كنا كالمسافر يقف على العين الباردة، يتمتع بالماء العذب، والظل الظليل، ثم يسير لا يحمل معه قربة من ماء، ولا يتزود زاداً، لأنه لا يعلم أن الطريق أمامه شمس كله وعطش وجوع وضلال، ولا بد له من سلوك هذا الطريق. . .
كانت حياتنا كالبركة الساكنة، ولكن الأيام ألقت في بركتنا حجراً كبيراً، أزعج سكونها، وكر ماءها، فلم تصف من بعد أبداً، وكان الحجر الذي رمتنا به الأيام غلاماً قذراً حمله سيدي من أزقة بيروت. . .