وهنا تبدأ القصة التي أروي لك مقاطع منها، لأنها لا تروى. كلها: ومن يستطيع أن يروى قصة حب، بكل ما فيها من عواطف وأفكار، وآلام وآمال؟
إن النفس البشرية أعمق من البحر، فمن دخل البحر غرق فيه فلم يخرج منه ليخبر عما رأى، ومن وقف على الشاطئ لم يلمس منه إلا الزبد الذي يحمله إليه الموج، وإن أعظم القصص التي كتبها الأدباء، لم تكن إلا زبداً يلقيه الموج إلى الشاطئ، أما اللجة الكبرى فلم يصل إليها قلم أديب، ولا غاص على جواهرها، ولا وصل إلى عجائبها.
هل رأيت الأفق عند الغروب، والشمس تلونه كل لحظة بلون، تخلق فيه عجائب لم تعرفها الأرض ثم تبيدها وتأتي بغيرها، وتخط فيه خطوطاً سحرية بألوان ما عرفها الفن ثم تمحوها وترسم سواها، كذلك النفس البشرية، إنها تبني وتهدم في (الثانية) من الأفكار والعواطف، والخواطر والتأملات، ما يعجز أدباء الأرض جميعا عن حبسه في القرطاس. فكيف يصف حياة امتدت أربعين سنة، من عجز عن وصف حياة ثانية واحدة؟ وكيف يصور ألوان النفس الخفية من لم يستطع أن يصور ألوان الأفق الظاهرة؟
إن الأدباء لم يأخذوا من قصص الحياة إلا حوادثها، وما الحوادث؟ ما خطرها؟ إنها جسم القصة، فهل رأيت محباً يقتل حبيبته ثم يعانق جسدها يحسب أن الجسد هو الحبيبة؟
هذا ما يصنعه الأدباء!!
أروي لك حوادث هذه القصة وأدع لك أن تفهم ما وراءها، وأن تلمس بيد بصيرتك روحها حتى لا تكون جسما بلا روح، وأن تسمعها بأذن نفسك لا بأذن رأسك، فإن النفوس متشابهات ورب إشارة أو كلمة أدلُّ عند النفس من كتاب ضخم عند العقل.
بدأت حوادث هذه القصة يوم عاد سيدي الشيخ من بيروت راكباً فرسه، إذ لم تكن قد وطئت حرم الجبل الأشم هذه السيارات. . . وقد لفَّ عباءته على غلام وضعه بين يديه لا يبدو منه إلا رأسه، فلما وصل كشفها عنه فإذا غلام (شحاذ) عمره نحو عشر سنين، وسخ الجسم، قذر الأسمال، فقال لنا:
- إني وجدته في رأس بيروت يهم بأن يلقى نفسه في البحر فحملته معي.
وجعل الولد يتفلت منه كأنه قط وحشي يريد أن يفرَّ من الصياد، فشد يده عليه، , ودفعه إليَّ وقال لي: