للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

- خذيه فأطعميه.

ويا ليته تركه يرمي بنفسه في البحر، أو يا ليته خّلاه ليهرب ولا يعود، إذن لما شقينا به ولما شقى بنا أربعين سنة كوامل، لم نستمتع فيها بشباب، ولم نعرف فيها السعادة ولا الاطمئنان.

وسحبته من ذراعه، وهو يحاول التملص مني، ويعضُّ يدي، وينطحني ويثبت قدميه مستعصما بالأرض كالتيس العنيد، حتى بلغت به المطبخ ووضعت له الطعام فأكل أكل من لا يخشى الفزر، فلما شبع عدت به إليه - وكان يحدث الولدين ويدفع أليهما هداياه التي طلباها منه: القيثارة للصبي والسوط المرصع اليد للبنت - فلما رأته ليلة، قالت:

- بابا. إنه قذر.

ورحمته. أما علام فقد أبغضه منذ اللحظة الأولى.

فقال لي سيدي الشيخ:

- خذيه فاغسلي جلده، وألبسيه.

ففعلت فرأيته قد استحال إنساناً آخر، وخيل إليَّ أني لمحت على وجهه وميض نبل قديم، فلما أنعمت النظر فيه وجدته قد انطفأ وعاد وجها عادياً لغلام وضئ رائع المحيا.

وعدت به إلى الشيخ، فسرَّ به وقال:

- لقد أسميته (هاني) وجعلته مني كولدي.

ونظرت إلى الولد فأبصرت عينيه تلمعان، ثم رأيته يسرع إلى الشيخ فيخبئ وجهه في طيات جبته ويبكي، يعبر بالدمع عن الشكر الذي يقصر عن التعبير عنه اللسان.

وكانت ليلى ترمقه باسمة، أما علام فكان يأكل قلبه البغض ويجلّل وجهه الغضب.

ومرت الأيام، وألفته ليلى إذ كان في مثل سنها وألفها، أما علام فلم تزده له الأيام إلا كرهاً، وكان الشيخ قد اشترى لكل من الثلاثة فرساً، فأقبل علام يوماً على هاني وكان يساير بفرسه ليلى، فقال له آمراً:

- انزل عن الفرس وهاته، فإن فرسي قد أصابه العرج.

فأبى، فسبَّه وأخذ الفرس منه قسراً، وآلمه عدوانه عليه، وأنساه كرم الوالد أصله، وأنه لقيط من الطريق، وأن (علام) هو الولد والوارث والفرس فرس أبيه، وأنه أكبر منه سناً، وأقوى

<<  <  ج:
ص:  >  >>