للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من الأدب التحليلي]

أنا. . . والنجوم!

للأستاذ علي الطنطاوي

ما من كلمة هي أثقل على أذن السامع وأبغض إليه، من كلمة (أنا)، وما حديث أكره إلى الناس من حديث المرء عن نفسه. . . بيد إني متحدث الليلة عن نفسي، وقائل (أنا)، وجاعلها عنوان مقالتي، لأني منفرد بنفسي، لا أجد من أتحدث عنه إلا (أنا).

أنا حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفسي، وحين أصف شعور واحد وعواطفه، أصف شعور الناس كلهم وعواطفهم، كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعا ليعرف مكان القلب وصفته، ولكنه يشق الصدر والصدرين ثم يقعد القاعدة، ويؤصل الأصل، فلا يشذ عنه إنسان. . . سنة الله في الخلق، وقانونه المحكم، ونظامه العجيب الذي جعل الناس مختلفين وهم متشابهون - ومتشابهين وهم مختلفون، برأهم على الوحدة في الحقيقة، والتنوع في الجمال، فخلق العيون كلها خلقا واحدا، كل عين ككل عين، في تركيبها ووضعها، وصفتها، وما عين في شكلها ومعناها وجمالها، تلك حكمة الحكيم الخبير، وهذه صنعة المبدع القدير!

أنا منفرد على سطح دار في (الزبير) في هذه الليلة الساكنة المتلألئة النجوم، وأمامي الصحراء التي تمتد إلى عمان واليمن ونجد والحجاز، وورائي السواد الذي يصل إلى أرض فارس، وهي قريبة، حتى أني لأرى لهيب النفط المشتعل في (عبادان) وأنا في مكاني. . . أتأمل هذه الصحراء المجيدة المباركة، التي كتب على رمالها أروع سطور المجد، وأجل صحائف التاريخ، ونبت في رمالها دوح الحضارة الذي أوت إليه الإنسانية، وتفيأت ظلاله يوم لا ظل في الأرض إلا ظله؛ وأفكر فيطول بي التفكير، ويطل بي الفكر على آفاق واسعة ودنياوات عظيمة، وتنبلج في نفسي أصباح منيرة، فأجد في رأسي مئات من الأفكار الجديدة الكبيرة، وفي نفسي مئات من الصور الرائعة المبتكرة، ولكني لا أكاد أمسك واحدة منها لأقيدها بالألفاظ، وأغلها بالكلم حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم، ولا أنا سجلتها في مقالة وصنعت منها تحفة أدبية، ولو أني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكنت شيئا

<<  <  ج:
ص:  >  >>