راجت سوق الكتب القديمة بعض الرواج في هذه الأيام كما راجت في أيام الحرب الماضية، لأن الوارد من كتب أوربا قليل، ولأن طالب الكتاب الأوربي الجديد ينتظره طويلاً قبل أن يتلقاه في البريد، فإذا وجده مقروءاً قديماً فذلك خير من انتظاره جديداً بكراً بعد أشهر أو أسابيع، ومن هنا تروج الكتب العربية القديمة التي ترد من أوربا أو التي طبعت في هذه البلاد، لأن الذي يبيع مكتبته عند إحساسه بارتفاع الأسعار يبيع منها الإفرنجي والعربي على السواء.
وفي سوق الوراقين وباعة الكتب القديمة فلتات كثيرة من التاريخ، وفلتات كثيرة من الأخلاق، وفلتات كثيرة من العجائب: نسميها فلتات لأن المرء يجدها معروضة بين يديه دون أن يطلبها، وقد تكون الفلتة منها أنفس وأولى بالاقتناء من البغية المطلوبة.
أذكر أني عثرت بكتاب لي عليه تعليقاتي وملاحظاتي بعد فقده بخمس وعشرين سنة، ولو علم بائعه سره عندي لغالى بثمنه، ولكنه أعطانيه وهو مفرط فيه مسرور بما نقدته من ثمن قليل بالقياس إلى رغبتي فيه، كثير بالقياس إلى رغبة البائع في تصريفه.
وأذكر إني عثرت على عدة أجزاء من كتاب في إحدى المكتبات، ثم عثرت بعد حين على الناقص منه في مكتبة أخرى.
وأخبرني بعض الإخوان أن كتاباً من مكتبة الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل التي بيعت في إنجلترا وفاء ببعض الغرامات ما زال يطوف الأرض حتى وصل في مصر إلى يد أديب من المعجبين بالفيلسوف العظيم، فاشتراه وأرسله إلى صاحبه وتلقى منه جواباً بالشكر والتحية لا يزال من أعز محفوظاته.
وإلى جانب هذه العجائب والمصادفات عجائب أخرى من أخلاق الناس وولعهم بضروب الاقتناء والادخار.
فهذه كتب جديدة قديمة معروضة للبيع بعد طول احتباسها على الرفوف، وهي جديدة لأنها غير مفضوضة ولا مقروءة، وقديمة لأنها اشتريت منذ عهد بعيد.
لماذا اشتراها المشتري وهو لا يقرأها، ولعله لم يكن ينوي أن يقرأها؟. . . هنا العجب من