من كوة هذه المئذنة الحفصية العتيقة - مئذنة جامع القصبة القائم في قلب مدينة تونس - يرسل المتأمل بصره فتتجلى له (الخضراء) كأنها برنس أبيض مفروش على شاطئ.
وأول ما يشخص أمام بصره هذه المآذن السامقة الضاربة في الجو التي تزين أفق تونس، وتقوم أدلة شاهدة على هذه العهود التي مضت، عهود الأغالبة والفواطم والحفصيين والأتراك الذين كانوا يفتنون افتناناً في إقامة هذه المآذن الرائعة يدعو عليها الداعي إلى عبادة الله، في مختلف مواقيت الصلاة.
ويا لله ما أجمل هذه القباب البيض الناصعة البياض، والخضراء الشديدة الخضرة، والصفراء الفاقعة الصفرة! كم تبعث في النفوس البهجة والغبطة! وكم توحي إلى النفس معاني من الجلال والتقديس! وكم تمتّع العين بمجال من الجمال الرائق، هذا الجمال الذي يزيده شعاع الشمس روعة وفتنة.
إن هذه المآذن والقباب لرائعة في إشراق الشمس وبزوغ القمر. إنها لسحر في الليل والنهار. إنها آية من الفن تمتع الناظر بمختلف المعارض والمناظر.
من كوة هذه المئذنة يشرف المطالع على تونس إشرافاً محيطاً فلا ينفلت من العين من معالمها، ولا يند عنها مظهر من مظاهرها.
يرى تونس العربية في شكلها الشرقي البديع، وينعم النظر فتبدو له المدينة الأوربية الحديثة بعماراتها الشاهقة وقصورها العالية.
هاهي ذي سطوح الدور العربية بيضاء مشرقة. وهاهي ذي سقوف الأسواق المقوسة تبدو كأنها مسايل من ماء منسابة. وهاهي ذي القصبة تظهر عامرة بهذه الدواوين الحكومية التي أقيمت على أشكال بعضها شرقي والآخر غربي. وهاهي ذي بحيرة تونس تلوح من بعيد وقد انعكست عليها أشعة الشمس وأرست فيها البواخر، وطار في جوها هذا الطائر الرائع النُحام (البشروش) ذو الأجنة الوردية والطيران النشوان. وهاهو ذا خليج تونس يشق الأرض شقاً والرتل الكهربي يبدو كأنه أرقم جد في هربه، ينساب في هذا البرزخ الممدود