للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بين العاصمة والمصطاف التونسي البديع (حلق الوادي) الفضي الأسحار، الذهبي الأصائل. وهاهو ذا جبل (الزلاَّج) المترامي الأطراف تتوج هامته تلك القبة الخضراء القائمة في ذروته كأنها قلعة حربية، وما هي في الحقيقة إلا زاوية الشيخ أبي الحسن الشاذلي دفين عيذاب من صحراء مصر.

ومنه تنتقل العين إلى ذلك الجبل الأشم الشامخ المرهوب جبل (أبي قرنين) المطل على مربع (حمَّام الأنف) وعلى قمة هذا الجبل كان القرطاجنيون أقاموا معبداً لبعل ذي القرنين كبير آلهة الفينيقيين وما يزال التونسيون إلى اليوم يسمونه بجبل أبي القرنين.

وما تزال العين تقع من هذا الموقع الكاشف على بدائع الخضراء حتى يبدو لها من بعيد ذلك الجبل الآخر السامق الذراء (جبل زغوان) مسبح الصلحاء وخلوة العباد والزهاد، ومنبع العين الدفاقة التي تفيض بخيرات مائها النمير على العاصمة التونسية وضواحيها.

حقاً، ٍ إن تونس من هذا المكان تخلب اللب وتأسر الفؤاد. وإنك لتود ألا تبارح هذه المناظر الصباح والمباهج اللطاف، وهذا المزاج من الجلال والجمال والماضي والحاضر، والذوق الشرقي والغربي الذي عمل في تكوين تونس، في هندامها الأنيق، وتخطيطها الدقيق، وحسن موقعها، وإحاطة الجبال والهضاب بها إحاطة الهلال؛ اللهم إلا ما يصل بين البر والبحر.

إن موقع تونس الجغرافي لبديع غاية الإبداع، هي بحرية كأنها جزيرة، وهي برية كأنها صحراء. فهي تجمع بين الضب والنون كما يقول الجاحظ في مدينة البصرة.

أما ترى البحر كيف يهاجم بأمواجه هذا المرفأ، فهي تصطفق وتموج وتصخب، حتى إذا ما اصطدمت بهذه الحواجز القائمة على الساحل انثنت مبددة متناثرة، وما هي إلا لمحة حتى تتجمع موجة أخرى هاجمة تريد أن تشفي صدرها من صدمة هذه الحواجز، ولكنها تنهزم مع صاحبتها الأخرى، فلا الموج يكف عن الهجوم ولا الساحل يلقي سلاح المقاومة. . .

أما ترى هذه الهضاب المحدقة بتونس، كأنها جيوش جرارة نصبت لحراسة الخضراء، أعلامها أشجارها، وعدتها صخورها، وهيبتها شموخها، وخيلاؤها ارتفاع رأسها في الجو.

بحر إن شئت حدثك عن الأساطيل القرطاجنية، والأغلبية والفاطمية، وكيف شقت صفحته هذه الأساطيل الغازية لتونس، الحارسة لسواحل البحر الأبيض المتوسط، فكأنها اسود

<<  <  ج:
ص:  >  >>