بلغها بدمائه خلقه، لا ريب عندي في ذلك. ومن كان في ريب مما أقول فليعرفه من كتب كما أعرفه، ثم لينظر فإن لم يمح اليقين من نفسه الريبة فأنا المخطئ وهو المصيب. . .
وإن أنداده ليعجبون كيف يتخطى أكثرهم إلى تلك الدرجة التي باتت عندهم حلماً من الأحلام، وانهم ليقسمون أنه دونهم في الكفاية، ويستدلون على ذلك، إذا لم يغن القسم، بأخطائه الجسيمة التي لم يسأل قط عن شيء منها، وذلك ما يزيد دهشتهم وحيرتهم.
ولكني أنا أعجب كيف فاتتهم دمائه خلقه ورقة شمائله ولطف معاشرته، واليها مرد ما نال من حظوة! ومتى كانت تقدر الأعمال بالكفاية فحسب؟ وإن من الكفاية ما يلحق بصاحبه الأذى، وإن منها ما يقف بينه وبين ما يشتهي.
رأيته أول مرة فرحب بمقدمي ترحيباً ملك قلبي، وأقبل على يحدثني ويجود على من الألقاب بما كاد يعتريني الزهو ويداخلني الغرور من اجله. وما هي إلا دقائق حتى كنت منه كما لو كان يعرفني من زمن بعيد. وآية ذلك أنه صار يعرفني إلى أقرانه وهو يشير إلى فطنتي وسعة اطلاعي ويثني على كرم خلقي، كل ذلك في طلاقة أدهشتني وإن كادت تضحكني ضحكات لست أدري ماذا كنت أسميها!
وتاقت نفسي إلى رؤيته أمام رئيسه. ولم يطل تطلعي فقد أقبل الرئيس فرأيته يثب من موضعه فينظم وضع طربوشه على رأسه ويزر حلته ويهرول تجاه القادم مبتسماً، حتى إذا دنا منه أقبل على يده في لهفة ولسانه يلهج بالسؤال عن صحة (سعادة البك) وأنجال (سعادة البك) ويجيب في سرعة ونشاط على سؤال وجه إليه بقوله: (نعم كما أمرت سعادتك يا سعادة البك). . . وأعجبني لعمر لحق دماثة خلقه هذه واستيقنت نفسي من أدبه وظرفه.
وانقضى يوم فازددت اطلاعاً على حسن شمائله وجميل تواضعه، فهو يعزو كل شيء إلى همة سعادة البك، وهو لا يفعل شيئاً إلا (بأنفاس سعادته) وهو لا يكتم خبراً ولا يضن بحديث سمعه على رئيسه، فذلك عنده من الأمانة والإخلاص. وإن عبارات الإجلال والتعظيم لهذا الرئيس ليثب إلى ذهنه في سرعة عجيبة ولباقة مدهشة، أعجب معهما لمن ينكرون عليه الكفاية حتى لا يسعني إلا أن أنكرها عليهم هم، وإن كنت في ذلك مثلهم إلا