أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة؟ ذلك هو إنسان اليوم، وإن شئت فقل هو إنسان الدهر كله! زعم أبن آدم إنه عرف الله وعلم الحق وحكم العقل وآثر العدل وتوخي السلام، وراءى بعضه بعضاً فتظاهروا بالتصديق، ونافقوا بالإيمان، وشقشق خطباؤهم بالهدى، وتشدق شعراؤهم بالحكمة، وفي قرارة كل امرئ أن الله معناه الهوى، وأن الحق معناه المنفعة، وأن العقل معناه الحيلة؛ فأنا وأنت وهو إنما نذكر عزائم الله وفضائل الخلق وفرائض القانون إذا لم يكن من ذكرها بد لإدراك الغنيمة مع الراحة، أو اتقاء الهزيمة عند العجز. وغاية السياسة الآدمية أن تكون ثعلباً مع الضعف وأسداً مع القوة!
أزل عن عينيك أن استطعت ما غشيها من رياء الإنسانية وخداع المدنية، ثم انظر إلى حقيقة الإنسان في نفسك، وفي عشرائك في البيت، ورفقائك في المدرسة، وخلطائك في القهوة، وزملائك في العمل، ورؤسائك في الديوان، ونوابك في البرلمان، ووزرائك في الحكومة، فلا تجد إلا غرائز الحيوان الوحش تسمت بأحسن الأسماء، وتزيت بأجمل الأزياء، وتجلت في أبهى المناظر: فالتفارس تنافس، والأثرة محبة، والطمع طموح، والاستغلال تعاون، والاستعمار تحالف، والقوة حق، والضعف عفة، والحرمان قناعة، والختل سياسة، والشعوذة دين، والعصبية وطنية!
قد يخدعك الغطاء الذهبي على الناب، والقفاز الحريري على المخلب، فنحسب أن هذا الإنسان الذي هتك بعلمه أستار الطبيعة، وكشف بعقله أسرار الوجود، قد هذبه العلم وصقله التمدن، فارتفع من الأرض إلى السماء، وانتقل من الحيوان إلى الملك، ولكن خلافاً يشجر بين الأخوة على ميراث، أو شقاقاً ينشأ بين الزعماء على منصب، أو نزاعاً يحدث بين الدول على بلد، يستطيع أن يشق الذهب ويمزق الحرير فترى الوحش الآدمي على جبلته بادي النواجذ متقد العينين، يتحلب الريق من أنيابه، ويقطر الدم من أظفاره!
ها نحن أولاء، كنا نظن لوفرة المساجد في المدن والقرى، وكثرة السبح في الرقاب والأيدي، وتنافس الفقراء في أقام الصلاة، وتسابق الأغنياء إلى أداء الحج، أن الدين قد سيطر على القلوب وهيمن على الضمائر. . . فلما ابتلانا الله بوباء الهيضة الجارف، ووقع الأيمان المزيف تحت المحك، تمزقت الأغشية عن عفن في نفوس أكثر الأغنياء والأطباء