كان الشيخ محمد حسنين البولاقي من كبار علماء الدين في الأزهر، وكان أبوه من عظام أمراء البحر في الأسطول، وكان العرف المتبع أن يكون التعليم المدني للخاصة والتعليم الديني للعامة، فكيف صار أبن أمير البحر الأرستقراطي أزهرياً؟
حدثنا صديقنا الأستاذ محمود حسن زناتي عن أبيه - وكان أبوه رحمه الله أستاذاً للطيب الذكر المغفور له أحمد حسنين باشا - أن الصبي محمد حسنين وقع في نفسه منذ صغره أن يقرأ القرآن ويحفظ آداب الدين، وازداد هذا الميل فيه حتى سأل أبوه أن يرسله إلى الأزهر. فسخر منه أبوه وأمره ألا يجري هذا الأمر على لسانه وألا يخطره بباله، فتوسل إليه بالشيخ الانبابي شيخ الأزهر إذ ذاك فلم يقبل الوسيلة. وأصر الابن على طلبه، وأصر الأب على رفضه، وزاد على ذلك أن توعده بالطرد أن أصر على هذه المعرة. ولكن العاطفة الدينية كانت تعصف برأس الغلام عصفاً شديداً فلم يحفل بوعيد أبيه، ودخل الأزهر وأوى إلى الشيخ الانبابي فآواه وأكرم مثواه وأنفق عليه حتى بلغ الغاية من الفقه في الدين والتبحر في علوم العربية. ثم ظفر بشهادة العالمية وارتقى إلى كرسي من كراسي الأزهر.
وفي ذات يوم دعا شيخ الأزهر أمير البحر إلى داره فلبى الدعوة، وعرض عليه أن يزور الأزهر فقبل العرض، وعلى حلقة من حلقات الدروس أزدحم فيها الطلاب وأصطف حولها الوقوف، وقف الشيخ الانبابي وسأل أمير البحر: أتعرف هذا العالم الشاب يا باشا؟ فحدق الباشا في العالم ثم فغر فاه وقال دهشاً: هذا أبني محمد! فقال الشيخ الانبابي في لهجة لا تخلو من تأنيب وسخرية: نعم هو أبنك محمد يا باشا؟ وإني أناشدك الله أن تقول الحق: أيكما أعظم قدراً عند الناس وأرفع مكانة عند الله؟ فلم يسع الباشا إلا أن يقول: هو ولا شك.
ومنذ ذلك اليوم كان الشيخ محمد حسنين ابن الباشا يغدو إلى الأزهر ويروح إلى القصر في عربة فخمة يجرها جوادان مطهمان!