مضت خمسة وخمسون وثلاثمائة وألف عام منذ هاجر الرسول وأصحابه إلى المدينة، طوى التاريخ خمسا وخمسين وثلاثمائة وألف مرحلة منذ خرج محمد وأصحابه يحملون دعوة التوحيد والأخوة، وكلمة الحق والعدل والحرية - ركم الزمان على عام الهجرة أربعة عشر قرنا ونصفا ومازال يخرق الحجب نوره، ويلوح من خلال الأجيال سناه.
مضت أربعة عشر قرنا في جزر التاريخ ومده، وغير الدهر وخطوبه. قامت دول وزالت دول، وقويت أمم وضعفت أمم، وحيت مذاهب وماتت مذاهب، والأرض ترجف باعتراك الإنسانية واحتراب الأديان، وتدوي بالآراء تتصادم، والأفكار تتقاتل، ومن وراء هذا خلق يغلب خلقا، وسنة تميت سنة، وآية تنسخ آية، وأثر يبقى على أثر.
فأين الإسلام اليوم من مبتدئه؟ وأين بلغ المسلمون بعد أربعة عشر قرنا؟
قال كاتب أوربي منذ سنتين إن دعوة الإسلام قد انتهت، وإن الإسلام قد وهن، ولم تبق فيه قوة تحرك الأمم وتسير الأجيال.
أحق أن الإسلام قد انتهت دعوته، ودرست آياته، ولم تبق إلا أسماء وأوهام ورسوم وأعلام؟ هل الإسلام اليوم لا تنبض به القلوب، ولا تشق به العزائم، ولا يقيم المثل العليا للعمل في هذه الحياة، أصار الإسلام تاريخا دابراً، وانقلب مجداً ماضيا؟ هل طفئت النار، وأقوت الديار؟
ما هي دعوة الإسلام؟ دعوة ذات شعب تتناول العقائد والأعمال، وتهيمن على العقل والقلب، وتحيط بالجماعة من أقطارها، وتشمل الأمم جميعها، ولكنها في أصولها ترجع إلى أمرين: التوحيد - توحيد الله وتوحيد النفس بتخليتها من الأوهام المتنازعة والخرافات المتهافتة وإقامتها على طريق بينة لا حيرة فيها ولا ضلال؛ ثم توحيد الأفراد في الجماعة بالعدل الشامل والتسوية التامة، وإعطاء كل ذي حق حقه، لا عبد ولا حر، ولا سائد ولا مسود، ولا رفيع ولا وضيع؛ ثم توحيد الجماعات فلا شرقي ولا غربي، ولا عربي ولا عجمي. والأمر الثاني: العمل الصالح: أن يسير الفرد والجماعة والأمم إلى الخير، إلى العمل لإقامة الحق وهدم الباطل، ونشر العدل ومحو الجور - أن تمتلئ القلوب نارا