للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أحقا مات على محمود طه؟!]

أحقا رفاق علي لن تروه بعد اليوم يحي المجالس بروحة اللطيف، ويؤنس الجلاس بوجهة المتهلل، يدير على السمّار أكؤساً من سلاف الأحاديث تبعث المسرة في النفوس، وتحدث النشوة في المشاعر؟

أحقاً عشاق على لن تسمعوه بعد اليوم ينشد القصائد الرقيقة، ويخرج الدواوين الأنيقة، ويصور الحياة بألوان من الشعر والسحر والفتون، في إطار من الجمال والحب واللذة؟

أحقا أصدقاء علي أن تجدوه بعد اليوم يبذل من سعيه ليواسي، وينيل من جاهه ليعين، ويجعل بيته سكناً لكل نفس لا تجد الدعة ولا الأنس، ومثابة لكل طائر لا يجد الروضة ولا العش؟

أحقاًَ عباد الله سكت البلبل، وتحطم الجام، وتقوض المجلس، وانفض السامر، وتفرق الشمل، وأقفر الرّبع، وأصبح علي طه الشاعر العامل الآمل أثراً وخبراً وذكرى؟

لقد حدثني ربع ساعة في تليفون المستشفى يوم الأربعاء، فبشرني أن قلبه أنتظم وجسمه صحّ ووجهه شبا، وأن الأطباء سمحوا له بالرجوع إلىبيته، وأن استقباله في الدار سيعود، وأن مجلسه في (الأميريكين) سينعقد، وأنه سينتظرني يوم الجمعة في مكتبه ليقرأ عليَّ النشيد الأول من ملحمة (اليرموك) التي اقترحتها عليه، وربما خرج معي بعد القراءة إلىنزهة هادئة في طريق الأهرام؛ ثم ختم عليَّ حديثه الطويل بضحكة حلوة فيها أمل، وعبارة فكهة فيها تفاؤل! ولكنما كان بين يوم الأربعاء الذي حدثني فيه هذا الحديث، ويوم الجمعة الذي ضرب لي فيه هذا الموعد، يوم الخميس الذي سكن فيه قلبه الطيب فما ينبض بحياة ولا حب، وسكت لسانه الحلو فما ينطق بنثر ولا شعر: طلع صباحه الأسود المشئوم على غرفة علي وهو يلبس ثيابه ويداعب أصحابه، وينظر في الداخل فيرى طاقات الزهر تزين المنضدة، وفي الخارج فيرى ممرضات المستشفى يجمَّلن الممشى، فيهفو الشاعر المعمود إلىأزاهره التي تنفخ قلبه بالعطور، وإلى عرائسه التي تغمر شعره بالشعور، فيخرج ليؤدي ما عليه من المال للمصحة، ومن الشكر للأطباء؛ حتى إذا أبرأ ذمته من حقوق الناس أدار فيمن حوله من أصدقائه وذوي قرباه نظرة فاترة حائرة، ثم أسبل عينيه، وخر مغشيا عليه! فخف إليهأساته الذين بشروه العافية ووعدوه السلامة، وأخذوا يقلبونه ويفحصونه فإذا الجسد الجياش بالشباب والقوه هامد لا حراك به ولاحس فيه! وهكذا في

<<  <  ج:
ص:  >  >>