من أهم ما تدعوا إليه المدرسة الحديثة - وتقدم العقادَ نموذجاً له - تفتحُ النفس لألوان الأحاسيس، وانفساحها لصنوف المؤثرات، وتهيؤها لشتى الانفعالات؛ وكثرة الأوتار المرنَّة بها في العاطفة الواحدة، والعواطف المتعددة، ومطاوعتها لما تتأثر به، لا لما تحفظه وتحتذيه من القوالب المصبوبة
وكل هذا من خصائص الحياة الموفوزة، الغنية بالمذخور من المشاعر المتهيئة للتجدد والنماء، المستعدة للتفرد والامتياز
وقد كان النقد العربي - إلى أمد قصير - قد وضع للعواطف الشعرية مراسيم وقيودا، وجعل لها قوالب مصبوبة، ومن هذه العواطف (الحب)
ترى هذا في كتاب (الصناعتين) مثلا وتراه في الكتب المدرسية والمذكرات، وتلمح أثره في كتابات من يتصدون للنقد بعد اطلاعهم على الكتب القديمة وحدها
وتلمح أثر هذا التحديد في ذوق المتأدبين الذين لا يصبرون على صورة جديدة يرونها في غزل جديد أو قديم، لا تكون وفق قوالب خاصة، وعلى طراز محدد من طراز التعبير
ولقد كان هذا يدعوني إلى اتهام الطبيعة العربية والطبيعة المصرية على السواء؛ فما يصبر الطبع الموهوب على هذا الجمود في ألوان الحس والتعبير؛ وما تقف النفس عند صور محدودة معلومة إلا وقد ضاقت عما عداها، واستغلقت دون سواها. ولولا أن هناك فروضاً وأعذاراً تلتمس لقد كان سوء الظن أولى، والاتهام أوجب. ولكنا في انتظار ما يطلع به المستقبل من الأدباء والمتأدبين
والعقاد أفسح شاعر عربي نفساً في غزله، وأكثرهم أوتاراً مرنَّة. فلا عجب تزيد الأنغام في شعره على ما تستطيع الأذن المصرية - إلا نادراً - أن تسمعه وتطرب له؛ ولا عجب يجد الكثيرون صعوبة في تقبل هذه النغمات لأنها تجهد آذانهم وأذواقهم، وتحملهم استعارة طاقات نفسية لا قبل لهم بها، كما تجهد العين الضعيفة تحت المنظار القوي الذي يجمع لها من الضوء فوق احتمالها!