تركية القديمة - غفر الله لها - كانت في دول الأرض معنى من معاني الإرهاب حروف لفظه السُّم والَيُّم والسجن والسيف والسوط! جمعت في يدها القوية أطراف الشرق والغرب، ثم أدارت حول تاجها الرهيب هالة من خلافة الرسول فعنت لجلالها الوجوه، وخشعت لسلطانها الأفئدة؛ ولكنها لم تستطع أن تثبت ملكها بقوة الروح وبراعة الذهن وعبقرية البيان كما فعل العرب، فظلت واقفة أمام شعوبها الثائرة عابسة الوجه معقودة العنق منشورة الشارب مشهورة السيف، فحرمها ذلك الموقفُ نصيبها من طمأنينة السلم ومدينة العلم ونعمة الثقافة. وكان ولاتها على الأمصار الخاضعة يحكمون الناس بهذه العقلية الجهول، فيظهرون الأبهة وينشرون الرهبة ويحصدون الأموال والأنفس بالضرائب والرُّشى والمصادرة والقتل. فإذا طالت الولاية واكتظ الوالي ورضى (المابين) وأراد الباشا أن يفكر في الدين أو في العلم أو في الإصلاح دل على فهم بليد وغفلة عجيبة!
كنا ذات يوم نتحدث في هذا وفيما جره على الأمة العربية من الجهل والذل والفقر ونحن جلوس في ندوة السيد صبحي الدفتري محافظ بغداد يومئذ؛ وهي ندوة تقوم في داره المضياف ضحى يوم الجمعة من كل أسبوع فيندو إليها الوزراء والزعماء والأدباء والقادة، فيكون لكل طائفة منهم حلقة وحديث. ولكن الزهاوي إذا تكلم أصغت إليه الدار وتحلقت علية الندوة؛ لأن جميلاً كان آية الله في فكاهة الطبع وظرف المحاضرة وحلاوة الدعابة ورقة العبث. وكان له في إلقاء النادرة لهجة وإشارة وهيئة لا يبرح سامعها مستطار اللب نشوان المشاعر من غرابة ما يرى وطرافة ما يسمع
كان الحديث أول ما بدأ دائراً بيني وبين السيد ناجي الأصيل على أن الحرب وأوزارها استقلت بمواهب الترك فلم تدع لهم كفاية للسياسة والثقافة؛ وأخذنا نضرب الأمثال على ذلك مما جرى في العراق ومصر. وكان المرحوم الزهاوي بجانبي، ولكنه كان مشغول الأذُن بكلمة منافقة في العقاد والرصافي أُلقيت إليه في خفوت وخبث. فلما تشربها سمعه وأجاز عليها القائل ببسمة وهزة وسيكارة، أقبل علينا فسمع طرفاً من الحديث نبض له نابضة فقال: هُوهُوه! إذا حدثتك مولانا عن حمق الولاة من الترك لا ينتهي الحديث ولا ينقضي