زحف الظلام فلفَّ باريس كلها. وغشيتها موجة من البرد القارس. وجثمت على صدر المدينة اللاهية الضاحكة غاشية من همٍ ثقيل حبست الناس إلى دورهم، وحلَّقتهم حول مدافئهم. وقد خَلت من رُوادها المسالك والطرقات. وهجعت مدينة النور - على كُرْهها - تحت أطواء ليل بارد مظلم طويل
ولكن (فأنى) التي طوت نهارها طاوية لم تكن لتأبه لذلك البرد القاسي، فإن الجوع قد لوى أمعاءها وخمصَ بطنها، وأَشاع في نفسها الخوف من أن تتضور في غدها كما تضورت في يومها؛ فخرجت - ككل أُمسية - لترابط على رأس طريق تنتظر فيه من يمنحها الخبز الرخيص لقاءَ أن تهبه جسدها ساعة أو بعض ساعة
وفي تلك الليلة القرة كان الرجال يمرون بها مراً لا يحفلون بها، لأنها لم تكن تحسن دعوتهم، ولأن لذع البرد لن يدع في نفوسهم سوى أن يصلوا إلى مكان دفئ كنين، فلم تُلفتهم تلك الهسهسة المرتجفة التي كانت تقع من أذهانهم موقع الظِّنّة والعجب من هذه الفتاة التي تهزأ بهم وتسخر منهم في هذا الليل المثلوج!
كانت شابة جميلة تقف على قمة العشرين، تفور أنوثتها في كيانها فتنضح حسناً في وجهها وامتلاء في جسدها، وشهوة تتألق في عينها الشرهة ونظرتها الآثمة. . .
تلك (فاني) التي سطع نجمها فبهر باريس من أقصاها، إلى أقصاها، وشغلها عن كل غانية سواها، تدور الليلة يهرأها البرد ويلويها الجوع فلا تجد من يشبعها أو يأويها. حتى إذا خَدرِت قدماها من طول ما وقفت، وسرت في قديمها وفخذيها رطوبة الأرض المصقوعة همت راجعة وهي تغمغم قائلة:
- لم يعد ثمت أمل فلأرجع إلى بيتي
وكأنما شق عليها أن تنتهي غمرتها هذه النهاية المحزنة المؤلمة، لأنها حين دارت بجسمها لتأخذ طريقها دارت عينها تفحص الظلام حولها عله يتفتق عن رجل. . . فلمحت شبحاً