يكثر التشابه بين أفراد الجنس الواحد في عالم الطبيعة في الطبقات الدنيا من الأحياء، وكلما ارتقى الجنس في سلم الحياة ازداد الاختلاف في المظهر والصفات بين أفراد الجنس؛ وكذلك الحال في المجتمعات البشرية: يتشابه الناس ويتقاربون في المشارب والأغراض في عصور الانحطاط، ويختلفون خلقا وعبقرية في عصور النهضات، ويتفرقون في شعاب الحياة ودروب المطامح فلا يتفقون إلا في تدفع الحياة في نفوسهم وعلو هممهم وولوعهم ببعيدات الأمور، فالتشابه والاتفاق من إمارات الانحطاط. والاختلاف والتميز من دلائل الرقي.
وذلك الشأن في آداب الأمم: فان أظهر ميزات عصور النهضات فيها اختلاف مشارب الأدباء وتباين شخصياتهم واستقلال نظراتهم إلى الحياة ووجهاتهم في الفن، فهم وإن اتفقوا على مبدأ أو مذهب في الأدب، لا يتشاكلون ولا يكرر بعضهم بعضا ولا يغني أحدهم عن سائرهم، بل ينتحي كل منهم ناحية من الحياة يوكل بها، ويرى الحياة جمعاء بمنظار نفسه لا بمنظار غيره، وينفث في أدبه خلاصة عبقريته الفردية؛ أما في عصور إدبار الأدب فيتماثل الأدباء حذوك النعل بالنعل، ويتهافتون جميعا على نموذج الأدب أو الإنشاء الأدبي، لا ينفكون يقلدونه ويعارضونه ويغفلون بمحاكاته عن حقائق الحياة ولباب الفن، فيخرج أدبهم جميعا صورا مكرر من أنفسهم وأشكالا ممسوخة من ذلك النموذج المحتذى أو القالب المصبوب.
ويمتاز فحول الأدب الإنجليزي، ولاسيما في عصور نهضاته ببروز شخصياتهم واستقلالها واختلاف بعضها عن بعض اختلافا تاما، إلا في اقتباسها جميعا من نور الصدق، وإصدارها جميعا عن معدن الشعور: فالنهضة الرومانسية في مستهل القرن التاسع عشر مثلا، كانت ذات أغراض معينة مشتركة بين جميع أعلامها: كانت ثورة على قيود الفكر وصناعة اللفظ وتقاليد النظم وعودة إلى الطبيعة والبساطة، ونزوعا إلى جمال الحياة، ومع ذلك يتباين فحول شعرائها وتبدو شخصياتهم بارزة واضحة الاختلاف في الأخلاق