يمكن القول إن شعر (بول فاليري) لا ينحدر من ينبوع واحد. فهو طوراً رفيق البرناسيين، وطوراً رفيق الرمزيين ولا سيما (ستيفان مالارمي) يغشاه عطف ناعم، وتكتنفه أحلام وتأملات ورموز. وشعر (فاليري) الطافح بالإبهام يبقى محافظاً على إيقاعه الموسيقي ولمعان صوره. وهنا سر عظمة الشاعر! وقد جرب (فاليري) أن يودع شعره (إلهامات) تجدد لغة العاطفة. وهذه الإلهامات قد أغنت عن كل الحريات، من الشعر الرمزي إلى البرناسي فالوجداني. ويرى فاليري أن هذه الحريات لم تنقذ الشعر ولم تعتقه من قيوده، إذ الشعر لا يمكن أن يولد إلا من حالة قهر أو من شدة، من صراع ومن ظفر. وقد يمتزج سهله مع النثر. ومقاطيع المقبرة البحرية - إذاً - قد بنيت وتحدرت كالشعر المدرسي، وفيها وفي حركتها قدرة - لو أنها دقت وانجلت - على أن تحمل الفكرة بوثبة لا تقهر، حتى في الموطن الذي لا تفهم فيه الفكرة، لأنه شعر حمل على الإبهام. وفاليري يعمل ضد المدرسة الرمزية والوجدانية بإعطائه - الشعر - خاصة الترنم لا بالأهواء وإثارة المشاعر ولكن بالأفكار! فالعاطفة يجب أن تقاد بالعقل. ويجب أن يكون محكوماً بصورة منظورة. على أن هذه الفكرة هي مولدة الشعر المدرسي. ولكن الشعر المدرسي لا يقيس من العقل إلا فكرة كبيرة واضحة. والعاطفة - وهي الشعر الصافي - إنما يجب أن تعبر عن العقل الصافي. وهذا العقل الصافي لا يربطه شيء بمنطق نصائحنا، ولا بأي مظهر من المظاهر الواضحة لحياتنا العملية. فهناك - في منطقة منعزلة بعيدة عن أنظمة هذه الحياة أو سطحيات اللغة العامة، هنالك عالم (للأفكار الصافية). فإذا ما استطعنا أن نستنقذ أنفسنا من هذه العبوديات في المظاهر بما أُوتينا من جهد ندخل حالاً عالم الشعر. . . الشعر الذي اكتشفه أفلاطون ووجده مصوغاً من النور ومن هذا الخلود الحي للرؤى العقلية. في هذا العالم لا يفكر بمنطق كما يفكر نثرنا وشعرنا. وإنما هذه الرؤى العقلية تترابط، أو تنحدر بحسب الإيقاع الضروري لها، كالزهرة ثم الثمرة تنشأن من الغرسة، لا كالقدوم يطرق المسمار. القصائد يجب ألا تفهم بالنظر في بنائها الظاهر كأنه مشهد نحن غرباء عنه،