ونزل متشنيكوف في معهد بستور، على سكون هذا المعهد ووقاره، نزول الصخرة فهزّه هزّا. ونصب فيه مِهرجاناً بهلوانياً عظيما ظل منصوباً عشرين عاماً، ووقف على باب هذا المهرجان يزعق ويصفق ويصفر ويزمر يدعو الناس إلى إحيائه بالدخول زُمراً إلى رِحابه وأرجائه، فكان كالدلاّل قام على باب مسجد لا يغشاه إلا نُسّاك زهّاد لم يذوقوا للهو طعما ولم يستسيغوا دُعابة أبدا
جاء باريس فوجد اسمه شائعاً، وأمره معروفاً مشهوراً. فنظرية الحصانة التي ابتدعها - ولعل وصفها بالدرامة الهيّاجة أوفق وأنسب - هذه النظرية التي تخبّرنا بأننا حصينون من الأدواء لأن حرباَ طاحنة لا تفتأ قائمة بين الكرات البيضاء التي في دمائنا وبين المكروبات الغازية - هذه النظرية بل هذه الأحدوثة كان شاع أمرها لدى بُحاث أوروبا فقاموا لها وقعدوا. وعارضه فيها أكثر بُحّاث ألمانيا والنمسا فلم يؤمنوا بها، بل لعلهم أُغروا بالإيمان بها لبساطتها ولجمالها، فقام هذا الإغراء يدفعهم إلى نقيضه لما أحسوا ضعف أنفسهم فيه فأنكروها إنكارا شديدا قاسياً. ونالوا من متشنيكوف باللسان في المؤتمرات، وبالتجربة في المعامل. مثال ذلك رجل ألماني شيخ نذر على نفسه لله ألا يمر عليه حول حتى يكتب مقالاً في مجلة علمية خطيرة يدحض بها تلك النظرية وينال فيها من الفجوسات ومن صاحبها. وجاء على متشنيكوف حين من الزمن لم تقو رجلاه على حمله من تلك اللطمات، وكان يُغشى عليه فيسقط إلى الأرض صريعاً. وعزّه النوم وطالت لياليه فكاد يفزع إلى عقاره المخدر القديم - إلى المرفين، حتى لقد عاوده خاطر انتحاره المعهود. أوّاه! كيف لا يستطيع هؤلاء الألمان الخبثاء الأنجاس أن يروا الحق في الذي يقوله عن هذه الفَجوسات! ثم اشتفى من كمده، فكأن وتراً انقدّ في مخه، فنهض كالليث يحمي عرينه ويدفع عن نظريته بعزيمة لا تخشى شيئاً، فجال وصال، وطلب الخصام والنزال، وكانت معركةٌ بها