للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

ثبات عجيب

أف لهذا المنظار! أزلت عنه التراب والصدأ ووضعته على أنفي بعد طول غيبة، فعاد يريني من دنيا الناس ما يسوؤني في الكثير مرآه، وإن كان لسرني أن أراه. . .

ولا يعجبن القارئ من هذا التناقض. فإن عجب فليعجب من هذا المنظار الذي يقع بي على ما يضحك في ذاته وإن كان لخليقاً بأن يستل من النفس كل ما أوصى به الله من صبر. وأكثر ما يريني منظاري ما يتصل بأقوى سبب بالتحمس والمتحمسين. والمصريون كما أعلم وتعلم أيها القارئ الكريم قوم شديدو التحمس سريعو الانفعال، وإن كانوا رقيقي الحاشية أسخياء الطبع مريحي النفوس. فما أسرع ما ينقلب الرجل الذي تمازحه ويمازحك في مثل ارتداء الطرف إلى نمر هائج لأقل بادرة منك في الحديث. وإننا لنتحمس في كل فصل. . . في الشتاء وفي الربيع وفي هذا الحر الذي يزهق النفوس وكثيراً ما يكون التحمس لغير سبب ظاهر، وهذا عندي أدعى صوره إلى إثارة الضحك كتحمس هذا الذي أريد أن أحدثك عنه. . .

هو شاب في نحو الخامسة والثلاثين، بادي الفتوة، مهندم الثياب؛ تطالعك في وجهه لأول وهلة إمارات الجد، وترى في جلسته ونظراته شيئاً من الصلف والصرامة؛ وتحس من عضلاته المفتولة وصدره العريض المرتفع أنك أمام مصارع محترف. . .

جلس في (المترو) على مقعد في الدرجة الأولى، ولم يبلغ الزحام في ذلك الصباح ما يبلغه اكثر الأيام من شدة: فالممر بين صفي المقاعد خال من الناس، والباب إلى الدرجة الثانية لا يقف فيه أحد. . . وفي مثل هذه الحال لا يتساهل محصلوا الأجرة في أن يركب الراكب حيثما اتفق له. . .

وكان صاحبنا يطالع إحدى صحف الصباح، وكنت على مقعدي تلقاءه، أنظر إليه من وراء منظاري، ولست أدري لم ألقي في روعي أنني أمام متحمس من طراز عجيب؟. . . أكان ذلك لما يبدو من صرامته وصلفه ودلائل قوته؟ أم كان مرد ذلك إلى ما كان يرتسم على وجهه من علامات الاشمئزاز والنفور كلما نقل بصره في الصحيفة من عنوان إلى عنوان؟ فلقد رأيته لا تتشكل أساريره قط بما ينبئ عن ارتياح عن ارتياح لشي مما يقرأ. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>