أعرف ـ كما يعرف غيري ـ أن فرنسا دولة لا دينية، ولكني أعرف كذلك أن فرنسا اللادينية هي التي تلقب ببنت الكنيسة البكر، وتزعم لنفسها حماية الكاثوليك في الشرق من غير أن يطلب منها أحد ذلك، وأعرف أنها تُضاهر بعثات التبشير في كل مكان بمالها ونفوذها العسكري والسياسي، وأنها تحرق المعابد وتهدم المساجد، وتقتل إخواننا المغاربة في ظل المحاريب، لأنهم هذه الدولة الغاشمة من ألوان العذاب! وأعرف أنها واقفة للإسلام بالمرصاد في مستعمراتها الشاسعة الواسعة، لتحولا دون نشره بقوة القانون وبقوة الإسلام! ويبلغ بها التعصب أن تمنع عشرة آلاف من سكان (مدغشقر) من اعتناقه بحجة أنهم لا يفرقون بين الإسلام وغيره من الأديان! بل يبلغ بها التنطع أن تقطع ما بين برابرة المغرب وبين الإسلام من أسباب؛ وتضرب بينهم وبين إخوانهم العرب بالأسداد، فتلغي المحاكم الشرعية، وتغلق المدارس الدينية، وتخرج القضاة والقراء ومشايخ الطرق وتمنع قراءة القرآن وتعليم اللغة العربية، وتلفِّق لهم الشريعة جديدة من قوانينهم العرفية، لتسلخهم من الإسلام دفعة واحدة بهذه الطرق الإبليسية!
نعم أعرف أن فرنسا دولة لادينية كما قلت، ولكني كنت أرى في الوقت نفسه هذه الأعمال التي تعيد لنا محاكم التفتيش في أبشع صورها! فأقف حائراً ذاهلاً بين هذه المفارقات المضحكة المبكية! حتى حل لي هذا الطلّسم المعقد حجة الإسلام المرحوم السيد رشيد رضا حين قال ذات يوم في عرض حديث عن فرنسا وأعمالها: إن الفرنسيين واللاتين عامة يتربون في حجور القساوسة قبل أن يتربوا في حجرات المدارس، ومن هذا كانت كراهتهم للإسلام وللمسلمين وللعرب خاصة! حتى ولو صاروا ملحدين.
وأعرف أيضاً تقليدياً أن شعار فرنسا: الحرية والإخاء والمساواة، وأنها تفتح صدرها لطرائد الاستبداد، وتُسبغ حمايتها على شذاذ الآفاق من كل جنس ولون، وأنها لا تبخل بمنح جنسيتها (الغالية) لكل من هب ودب - وإن قصدت من ذلك سد النقص المطرد في عدد سكانها ـ وأن عاصمتها مرتع خصيب لطلاب المعرفة وطلاب اللذة، وأنها عاصمة الفن وعاصمة اللهو، ومدينة النور ومدينة الظلام، وأن العدالة الاجتماعية بلغت فيها غاية لا