تعد رحلة أبي الطيب المتنبي من مصر إلى الكوفة من أروع الرحلات في القرن الرابع الهجري نظرا لما تضمنته من أسماء البلاد والمواقع. وقد كان أبو الطيب حريصا في شعره على أن يسجل الكثير مما رآه في هذه الرحلة، فقرن الأسماء بخياله الشعري، ووصل إلى درجة رائعة في القصيدة التي وضعها حينما دخل الكوفة والتي جاء فيها:
فلما أنخنا ركزنا الرماح ... فوق مكارمنا والعلى
وبتنا نقبل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعراق ... ومن بالعواصم أني الفتى
وهي أبيات قرأت ترجمتها بالفرنسية شعرا فوجدتها لم تفقد من قوة المتنبي شيئا، بل ظهرت شاعريته بلسان الفرنسيين
ولقد خرج أبو الطيب ليلة عيد النحر بعد أن تظاهر بالاستعداد للتضحية وكان قد اختار لنفسه أن يعلن عن عزمه بقصيدة مدح لزعيم من زعماء قيس النازلة في تلك الأيام بجوار بلبيس، وبالاطلاع على ديوانه نقرأ هذه القصيدة ونعلم شيئين:
الأول: كيف انتشرت قيس في إقليم الحوف الشرقي وكيف كانت لها السيادة في إقليم الشرقية
والمتتبع لتاريخ عروبة مصر يجد أن قبائل لخم وجذام وعاملة وذبيان لها منازل بالأراضي المصرية. ويرى كيف جاء بنو جزى وهم بطن من جزام، وبنو راشدة وهم بطن من لخم، وكيف انحدروا إلى أماكن عرفت بهم بين العريش ومصر، وكيف نزل من نزل منهم بالجزائر من أرض الحوف وهي الرمال البيضاء التي لم تكن تغمرها مياه الفيضان، وكيف هبط قوم منهم بالمناطق بين صان الحجر والزنكلوم وهي التي يطلق عليها اليوم (الزنكلون) فهذه المناطق أصلية في عروبتها، ثابتة في أرومتها؛ فإذا ذكر أبو الطيب قيس عيلان في بلبيس فهو يقصد بمديحه أن يلفت أنظار كافور إلى أن طريقه سيكون إلى الشمال مارا بمنازل عرب الحوف، فيأخذ كافور عليه الطرق والمسالك، ويقيم عليه الحرس