روح قوية جارفة، وجسم قوي حديد، الروح نزاعة إلى لذتها وسعادتها في أعلى عليين، والجسم نزاع إلى راحته ومتعته في أسفل سافلين، وصاحبهما بهما مسكين، يرتفع وينخفض، و (ينشال) وينحط، ولا يملك أن يستقر، لا في الأرض ولا في السماء، فهو في تخبط دائم ما بين مسمى روحه وما بين مهبط بدنه كأنه مجنون، أو هو مجنون، والفنون جنون. . .
مني على الدنيا السلام
آخر ما غنى في حياته دور (أنا هويت)، وآخر بيت في هذا الدور هو:
ما دمت أنا بهجره ارتضيت ... مني على الدنيا السلام
وراج دور الوداع هذا في الناس، وسمعه أولئك الذين كان يحبهم سيد درويش، ومن بينهم تلك التي ظل يغني لها طول حياته على البعد منها وعلى القرب، فلم يشعر الناس ولم تشعر هي بشيء وراء هذا الكلام، لأنه لم يكن أحد يتوقع الموت السريع لهذا المغني الشاب المملوء صحة والمملوء حياة. . .
إلا هو. . . فقد كان يتوقع الموت وينتظره ويهيئ له نفسه. . . دعا صديقه الأستاذ بديع خيري إلى بيته بعد هذا الدور وقبل وفاته بأيام، وجلس معه في حجرة علقت على أحد جدرانها صورة من صوره، وفيما هما يتحادثان سقطت الصورة المعلقة، فالتفت إليها سيد، ثم التفت إلى صديقه بديع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له صديقه بديع: إن هذا حق، ولكن ما الذي أجرى بهذا الحق لسانك، فقال له سيد: ليس لسقوط هذه الصورة معنى إلا أني سأموت. فقال له بديع: إنك مجنون، وكان بديع يقصد بقوله هذا أن ما جال في ذهن سيد ليس إلا وهماً خيله له الجنون، بينما الحق أن الذي جال في ذهن سيد ليس إلا علماً يكشفه الجنون.