في شهر ديسمبر من عام ١٩٤٩، وفي فوره من فورات النفاق الدولي، أعلن الساسة في (هيئة الأمم المتحدة) حقوق الإنسان؛ ثم احتفلوا واحتفل معهم الناس بالذكرى الأولى لهذا الإعلان منذ عشرين يوما، فبشروا بالنعيم المقيم والخير العميم والسلام الدائم. ومن وقبل هؤلاء الساسة (الإنسانيين) أعلن قادة الثورة الفرنسية هذه الحقوق عام ١٧٨٩ وصاغوها في عشرة مادة جعلوها ديباجة لدستور سنة ١٧٩١.
ومن السهل على الذهن الاجتماعي أن يعلل صيحة الثوار الفرنسيين بحقوق الإنسان بعد أن كابدوا ما كابدوا من استعباد النبلاء واستبداد القسس، وان يفسر احتضان هيئة الأمم المتحدة لهذه الحقوق بعد أن رأت الحوت الشيوعي معترضاً في خضم الحياة وقد فغر فاه الهائل المروع ليلتقم الديمقراطية الرأسمالية وما تسيطر عليه من أرزاق الناس وأسواق العالم بالاستعمار أو بالنفوذ. ولكن من الصعب على الذهن المنطقي أن يدرك ما يريده الأوربيون والأمريكيون من لفظ (الإنسان) الذي أعلنوا له هذه الحقوق وظاهروا عليه هذا العطف. اغلب الظن أنهم يريدون بإنسان هذه الحقوق ذلك الإنسان الأبيض المترف الذي تحدر من أصلاب اللانين أو السكسون أو التوتون؛ أما الإنسان الأحمر في أمريكا فهو في رأي أبناء العم سام ضرب مهين من الخلق عليه كل واجب وليس له أي حق؛ ولكن وجوده المعدوم في بلاد الديمقراطيين الأحرار لا يزال في رأي المسلمين أغلظ كذبة في دستور الديمقراطية بواشنطون، وأكبر لعنة على تمثال الحرية بنيويورك! وأما الإنسان الأسمر والأسود في أفريقيا، أو الأخضر والأصفر في آسيا، فهو في نظر الفرنسيين والإنجليز نوع من بهيمة الأنعام، وجنس من المواد الخام، يولد ليسخر، ويروض ليستثمر، وينتج ليستهلك؛ وهو موضوع الخصومة في السلم، ومادة الغنيمة في الحرب؛ ولكن حقه المهضوم بين أمم العلم والدستور لا يزال في نظر السلمون اتهاماً لصحة الثقافة في جامعات فرنسا، وإنكار الحقيقة العدل في برلمان إنجلترا! ومن هذا التفسير المزور لمعنى الإنسان في القديم والحديث اضطرب الأساس وفسد القياس واختلف التقدير؛ فلكل جنس وزنه، ولكل لون قيمته، ولكل دين حسابه. ومدار الوزن والتقويم والحساب على قدرة الإنسان وعجزه، لا على إنسانيته وفضله. فالعلم والغنى والقوة سبيل السيادة، والجهل والفقر والضعف سبيل العبودية. والسيادة حق ليس بازائه واجب، والعبودية واجب ليس بازائه حق.