[سأجيء هذي الدار]
للأستاذ فخري أبو السعود
البدر فضَّ غياهب الديجور ... وأَذابَ لجة بحره المسجور
أَضْفى على وادي المنية روعةً ... من صَوْبِ ضوء سال كالبَلُّور
فازدادت الأجداث فيه مهابة ... لمّا انجلتْ في نوره المنشور
قَرَّتْ، وقَرَّتْ سامقاتٌ حولها ... عُطِّلْنَ من نَسَمٍ وسَجْعِ طيور
فَكأنها في صمتها ومُثولها ... أشباحُ وادٍ نازحٍ مسحور
وأَوَى الظلامُ إلى خرائب منزل ... خلف القبور مهدّ م مهجور
مُقْوٍ من الأحياء والمَوْتَى فلا ... هو في القبور يُرَى ولا في الدور
وأَتيتُ متَّئِدَ الخُطَى متأنّياً ... أنْسَلُّ بين حفائرٍ وقبور
أَجتازُ في وادي المنون مُطَهِّراً ... للنفس فيه أيَّما تطهير
متذكِّراً فيه وكم مِنْ عِبرة ... لمنِ ابتغَى فيه ومن تذكير
حيثُ الصعيدُ جماجمٌ ومعاصمٌ ... وجِبَاهُ صُيّابٍ وأعيُنُ حُور
حيث انطوتْ سِيَرٌ خَوَالٍ وانتهتْ ... أشغالُ أجيالٍ وحربُ عصور
وخَبَتْ معاركُ لم يكَفكِفْها سوى ... حملاتِ جيش للحِمام مغير
وخَبَا ضِرَامُ محبَّةٍ وعداوةٍ ... وهمومُ أفئدة وداءُ صدور
أسْتَخْبِرُ الأجداثَ عما استُودعَتْ ... من كلِّ منخوبٍ بها منخور
ماذا صنعن بفاتنٍ ومنعَّم ... وجليل شَيْبٍ جاءها وصغير؟
كم غَيَّبَتْ من كان مَطمَحَ مُهجةٍ ... ومناطَ آمالٍ وعَقْدَ أُمور
طَوَتِ الأليفَ فإذْ بَكاهُ إلْفُهُ ... ثَنَّتْ برَبِّ المدمع المنثور
سأَجيء هذي الدارَّ يوماً لاحقاً ... مَن غادَرُوا بالقلب بَرْحَ سعير
ومُخَلِّفاً بَعدي حزيناً موجَعاً ... يبكي بدمعٍ للفراق غزير
يبكي وما عبراتُه في أَوْبَتي ... بالشَّافعاتِ ولا الرَّدَى بعذير
وتَقَرُّ في تلك الغيابة أعْظُمي ... مِن بَعْدِ كَدٍّ دائِبٍ مكرور
يَسْلُو بها قلبي قديمَ مآربٍ ... كانت وينزع عن أسى وحبور