وتأبى المقادير إلا أن تخلق (ذا قار) ثانية في ضاحية السواد، ولكن وقعة ذي قار الثانية تمتاز عن الأولى بأن العرب حشدوا ما عندهم من المقاتلة يدفعون بصدورهم صدور مقاتلة الفرس الذين أقبلوا من أقاصي فارس وأدانيها يذودون العرب عنهم!
أحست القادسية وطء هذه الجموع الزاحفة بخيلائها وعزائمها وأدركت أنه يوم سينضح ثراها فيه بالنجيع، ويسطع على سمائها كوكب من كواكب عهد جديد!
أشرق الفجر تغمر أنواره الباهتة جموعا تيقظت قبل أن يتيقظ وعلت أصوات تخللها نداء وصهيل ورغاء! والقوم خلال ذلك منكبون على جيادهم يمسحون أعرافها، أو متلمسون مقابض سيوفهم يهزونها، أو مادّون برماحهم إليها ما يسرون! ففريق يتبعه فريق، وكردوس يشد خلفه كردوس، يمشون والأهازيج ملء الفضاء، والنقع يوشك أن يحجب السماء. فهذه فئة مقاتلة تمشي إلى النصر بأهازيجها وتلك فئة منصتة يدوي فيها صوت يرجع صوتا رن منذ عهد لم يطل عليه الأمد فوق هذه الأرض التي أرادت الفارسية أن تقهرها وما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
صوت هانئ بن مسعود يدوي كالرعد القاصف:(يا معشر العرب! هالك معذور خير من ناج فرور، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، والطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور، وإن الصبر من أسباب الظفر، قاتلوا فما للمنايا من بد، فتح لو كان له رجال! يا معشر العرب شدوا واستعدوا، وإلا تشدوا تردوا)
تسمع هذه الأقوام أصوات خطبائها فتحن أنفسها لذلك اليوم الذي هو أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وإن هذا ليوم آخر أقبلت فيه الفارسية الوثنية تنازل الجزيرة المسلمة التي تغلي بدم الحياة!
وغير بعيد عن الساحة المستوية التي أعدت للقاء الأبطال - بطحاء انتصبت فيها خيام تقيم فيها الظعائن، وكانت أهازيجهن تجاوب أهازيج الرجال، ومن فوقها الصدى يكاد يلائم بينها، يحملها إلى القيعان البعيدة التي حنت إلى الحرية المكتوبة على أسنة العرب
في خيمة منفردة حمراء الأديم عجوز تخدد وجهها، ولعل الكبر قد نال منها شيئا، لكن