أجل!! هذا هو العالم المغرور الذي ظن خير الظن بمدنيته، وأثنى عليها ثناء الأم على عذرائها، ونفض عليها من تحاسين الخيال فنوناً كذُنابَي الطاووس، وأدار عليها مجامر الندِّ والمندل والعود من عطر الشهوات واللذات، وأحاطها بالعبقرية العلمية التي توجد في كل شيء شيئاً جديداً يدخل على العقل إبليساً صغيراً ليُضل عن سبيل الحق، ويضع في الثمرة حلاوة تلذ ونشوة تسكر، ثم زاد فأعطى المادة المتبدلة الفانية تدليساً يجعلها في فتنة الرأي ثابتة خالدة ثم غلا فجعل النفس تطلق أهواءها جميعاً لتحرز من لذات الحياة كفايتها، إن كان لأهواء النفس كفاية
هذا العالم المغرور يقف اليوم في فئتين التقتا للقتال في سبيل الأهواء الغالبة والشهوات المستحكمة. وفي هذا القتال تنكشف لمن أبصر حقيقة هذه المدنية، وحقيقة أغراضها التي عملت لها وعمدت إليها، وحقيقة الروح التي يتعامل بها الاجتماع الإنساني الذي تعيش به هذه المدنية الأوربية التي تنكر من الحياة وتعرف وتدعي لنفسها إسقاط ما أنكرت وإقرار ما عرفت
وفي كل يوم تتجدد أحداث الحرب، فتتجدد معها أساليب الغرائز الوحشية المصبوغة رحمتها بأصباغ الافتراس، وفي كل يوم يخلع الوحش عن مخالبه ذلك المخمل الناعم الذي دسها فيه، ويهجم بطبائعه على فريسته ليعين بذلك أنه هو الوحش: قانونه المنفعة، وشرفه المنفعة، وصداقته المنفعة، وأدبه المنفعة، ودينه المنفعة. فهو لا ينفك من منفعته في مثل السعار إذا أخذ الوحش فاستكلب فهاج فطغى، لا يهدأ حتى يطفئ هذا السعارَ ما يشفيه أو يرده أو يقدعه، وهو لا يرعى في ذلك حرمة، ولا يكفه شرف:
وكان كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
وقبيح بنا - نحن الشرقيين - أن نغمض أعيننا عن النظر إلى هذه المدنية التي أخذت تنهار تحت قصف المدافع وهد القنابل وزلازل الحرب، وأن ننام عن مستقبل أيامنا، وألا ننفض هذه المدنية نفضاً لنأخذ منها وندع، ولنعرف سوء ما تركت أنيابها في جسم أوطاننا، ونتبين حقيقة النفوس المسمومة التي أصبحت في الشرق فاشية تعمل على إدماجه في