هي ذكرى مؤلمة من ذكريات الصبي حدثت في بداية الحرب العالمية.
عند مغادرتنا محطة القاهرة في طريق المنفى، جاء أقاربنا يودعوننا وكانوا يعتقدون أن الحرب سوف تنتهي قريبا لأن الفيالق الألمانية المظفرة كانت وقتئذ عل أبواب باريس، فكان من المفروض أن فرنسا سوف تضطر إلى التسليم، وعلى هذا نرجع من المنفى بعد أشهر قليلة، ولكن اخطأ مع الأسف هذا الحساب لأننا بقينا في الخارج خمس سنوات، كما أن بعض هؤلاء الأقارب الأعزاء أدركتهم المنية قبل عودتنا إلى الوطن. قصدنا بعد ذلك السويس حيث ركبنا سفينة أسبانية قادمة من جزر الفلبين، وتقصد برشلونة (أسبانيا)، ولم تكن السفينة متينة ولا كبيرة، ولكن لم يكن لنا وقتئذ الخيار في ركوب سفينة أخرى وقديما قالوا ان المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه، وفوق هذا لم تشفق أمواج المحيطات الهندية على هذه السفينة في طريقها إلى السويس، فخلفتها في حالة سيئة.
انقضت الأيام من الرحلة في هدوء تام، وقد تعرفت أسرتي بمعظم المسافرين وأغلبهم أسر ألمانية ونمساوية اعتقل رجالها في مصر. وكم كان محزناً حال هذه الأسر وهي مدفوعة إلى مصير مبهم مجهول بلا مال ولا نصير! ولولا أمل هؤلاء القوم في النصر لما استطاعوا أن يصبروا على ما كانوا فيه من بؤس وشقاء.
أما أنا فقد تعرفت على الفور (قبل أقاربي) بالركاب الذين هم من سني، لأن الديمقراطية الحق هي التي تسود علاقات الأطفال
وكنا - هؤلاء الأطفال - وأنا - بطبيعة الحال غير شاعرين بالمأساة الكبيرة التي تمثل على مسرح العالم، بل العكس كانت فرصة لنا لنمثل معارك كالتي كانت ناشبة بين الألمان وخصومهم
ولكننا كنا نجد بصعوبة من يرضى منا ان يقوم بدور العدو لأن هذه الوقائع كانت دائما تنتهي بفوز ألمانيا، وبضرب الجنود المفروض أنهم أعداء ضربا مبرحا. وكان معنا على ظهر السفينة قسيس ألماني منفي من مصر، وكان يلومنا على عملنا ويدعونا إلى المحبة والوئام، ولكن لعمري هل كان الكبار وقتئذ ينصتون إلى مثل هذا القول حتى ينصت إليه