للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الصغار؟

وكان على ظهر السفينة - غير هذه الأسر الألمانية - عشيقان أسبانيان قادمان من الفلبين، وكانت حالهما أشبه بحالنا - معشر الأطفال - في عدم الاكتراث بما يقع في الدنيا من حوادث جسام، إذ كانا يقضيان الأيام في غزل متواصل، كان لهما على ظهر السفينة كرسيان طويلان متلاصقان، فكنت إذا مررت أمامها قطعا الغزل، فإذا انصرفت استأنفاه، فأغضبني هذا التصرف منهما، وأقسمت أن أفاجئهما متلبسين بالجريمة، من اجل هذا وضعت كرسي بالقرب منهما ثم اضطجعت عليه، وغطيت وجهي بشال من الصوف متظاهراً بالنوم، فلما أستأنف العاشقان الغزل فزعت من مقعدي فجأة وضحكت ضحكة عالية لأنني كنت أرقبهما من ثقب صغير أحدثته بأسناني في الشال!

ثم كان هناك راكب اختل عقله من طول السفر، إذ مضى عليه أربعون يوما وهو في السفينة، وكانوا يسمحون له بالنزهة على ظهر المركب في حراسة بحار حتى لا يلقي بنفسه في اليم، ولكن جنون هذا المجنون كان من حسن حظنا هادئا. وكان بعضهم يزعم أن مثل هذا الجنون وقتي يذهب لدى نزول صاحبه على الأرض. ثم كانت معنا في السفينة شحنة من الثيران مرسلة إلى أسبانيا ليمثل بها - المسكينة - (في الكوريداس)، ولكن قبل وصولنا إلى برشلونة بيوم، هبت عاصفة شديدة لم أذكر أني شاهدت في حياتي مثلها، فكانت أمواجها الصاخبة تهاجمنا، وكأنها في بأسها قبائل الهون المتوحشة، وكانت تصيح أثناء الهجوم صياحا شديدا، فإذا كان غرضها إذ ذاك أن ترعبنا فأنها أدركت حقاً بغيتها، إذ كانت حالنا جميعاً سيئة جداً كما أن أضلاع سفينتنا كانت تئن من جراء هذه الصدمات أنين الشيخ الهرم عند أزمة (لومباجو) حادة. . . وقد أمر القبطان بإلقاء الثيران في البحر حتى يخفف عبء المركب، ولا زلت أذكر ذلك المنظر البشع برغم عهده البعيد! كان يلقى بالثيران الواحد تلو الآخر وهي تصرخ كأنها تشهد السماء على جبروت الإنسان!

وقد أخرتنا هذه الزوبعة - التي ما زالت إلى اليوم أعجب من نجاتنا منها - يوما كاملاً عن ميعاد الوصول. .

ولما بلغنا في النهاية برشلونة، وتراءت لنا المدينة عن بعد، لم يكن فرحنا إذ ذاك يقل عن فرح (كرستوف كولومب) حين شاهد (سان سلفادور). . وقبل أن ينزل إلى البر، اقترب

<<  <  ج:
ص:  >  >>