كانت حوادث مراكش كابوس السياسة الأسبانية منذ نهاية الحرب. وكان لها أكبر أثر في تطور الحوادث التي انتهت بظفر الديموقراطية وقيام الجمهورية، وما زلنا نذكر تلك الحرب التحريرية العجيبة التي شهرها عبد الكريم زعيم الريف على أسبانيا مدى أعوام، ودحر خلالها الجيوش الأسبانية مراراً، وكاد يظفر بسحق سيادة أسبانيا في شمال مراكش لولا أن تألبت عليه قوى الاستعمار أخيراً واتحدت فرنسا مع أسبانيا على محاربته وسحقه، فكان ما أراد الاستعمار.
وكانت أسبانيا تعاني في بلاد الريف (شمال مراكش) منذ احتلالها متاعب جمة من جراء ثورة القبائل وتضطر دائماً إلى الاحتفاظ بجيش ضخم، ولكن أول نكبة حقيقية نزلت بالجيش الأسباني في بلاد الريف، وقعت في أنوال سنة ١٩٢١، ففيها هاجم عبد الكريم زعيم الريف مراكز القوات الأسبانية في تلك المنطقة، وكانت تبلغ زهاء تسع عشرة ألفاً، فمزقها واستولى على مراكزها وذخائرها، وقتل منها نحو ستة عشر ألفاً، وفر الباقون في مختلف الأنحاء، وانتحر قائدها الجنرال سلفستر. وكان محمد بن عبد الكريم الخطابي من أبناء بني أراغيل، رباه أبوه تربية حسنة، ودرس اللغة الأسبانية، والتحق بوظيفة في الإدارة الأسبانية بمليلة؛ وفي سنة ١٩١٩ وقعت بينه وبين الجنرال سلفستر مشادة حادة وأهانه القائد، ففر من مليلة وهو يعتزم الانتقام ولحق به أخوه (محمد أيضاً) وهو مهندس درس في أسبانيا وكانت القبائل يومئذٍ تتحفز للانتقاض، وكانت قد تلقت أيام الحرب كثيراً من الأسلحة والذخائر التي هربت بواسطة الألمان، فكان ذلك أكبر عون لها على مقاومة القوات الأسبانية وإزعاجها من وقت لآخر. فلما فر عبد الكريم من مليلة داعياً إلى الثورة ألتف حوله عدة مئات من الرجال الأشداء، واستطاع بهذه القوة الضئيلة أن يدبر ذلك الهجوم الجريء على المراكز الأسبانية في أنوال وأن ينزل بها تلك الكارثة الفادحة (يوليه سنة ١٩٢١)، واستولى عبد الكريم على كميات هائلة من الأسلحة والذخائر مكنته من المثابرة في الحرب أعواماً. وكان للنكبة وقع عميق في أسبانيا، فاضطرم الرأي العام سخطاً