للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نهاية أستاذ. . .]

مئات من المدرسين وآلاف من الطلاب يعرفون الأستاذ. أحمد عثمان المهدي مدرس الفرير المثابر خمسا وثلاثين سنة. ولكن معرفتي إياه رفيقاً في الدراسة، وزميلاً في التدريس، تجعلني أقدر من عرفوه جميعاً على حكاية مأساته، وكشف ما خفي من أسرار حياته ومماته.

عرفته سنتين طالباً في الأزهر يعني بتجويد الخط، ويحاكي (أبناء البلد) في لرواء والسمت. ومنى كان ربيب أسرة المهدي المترفة كان خليقاً أن ينشأ على حب الجمال في الزي والمنظر

وزميله سبع سنين مدرساً في كلية الفرير بالخرنفش يعلم العلوم العربية في فصولها المختلفة، وينسخ (للأخ بلاج) المفتش أصول (مؤلفاته) في النحو والبلاغة والأدب. وما كان أحذق المتنبئين ليستطيع حينئذ أن يتنبأ لهذه النفس الراضية والطبع المرح والثغر الضحوك واللسان الداعب، بهذه الكهولة الأليمة والعاقبة المحزنة. نعم كان المتفطن المستبصر يخشى أن تكون له في بعض الأزمان زوجة وأولاد؛ فقد كان يعيش عيش السمك في الماء، لا يكاد يعرف له مستقراً ولا غداً ولا غاية. كان يقضي فراغه كله في المقاهي بين زمرة الشباب المملق المتملق؛ وكان العرق التركي الذي فيه لا يزال يضرب عليه الشموخ والأبهة، فلا يسمح لأحد من الجلاس أن يدخل يده في جيبه. وكان فضلاً عن ذلك مخروق الكف والكيس فلا يمسكان على ما يكسب، ولا يبقيان على ما يملك. كان لا يسأله أحد إلا أعطاه، ولا يعرض عليه شيء إلا اشتراه. وكان أكثر ما يشتريه لا يحتاج إليه، كأداة المطبخ وليس له بيت، أو حاجة المرأة وليست له زوجة. إنما كان مولعاً بمساومة الباعة الجوالين، ويسره أن يعلموا أنه خبير بالصنف فلا يغش، عليم بالثمن فلا يغبن. وقد فطن الخبثاء إلى هواه فكانوا يتغالبون له ويتشاكون منه، وهو يشتري ويشتري ثم يودع ما اشتراه صاحب القهوة ولا يطلبه!

وكان لحبه الخير والشهامة يتمدح بما فعل ما لم يفعل منهما. ولخياله الخصب في هذا الباب حوادث وأحاديث يكون هو فيها البطل المرموق. وكان يكفي أن تحسن الاستماع وتظهر الاقتناع لتسلبه الإرادة وتقوده إلى حيث تريد. وضعف إرادته إنما كان يظهر في نواحي المروءة والرحمة، أو في أمور المال والمعيشة. فكان لا بد له من قيم يدير ماله وينظم

<<  <  ج:
ص:  >  >>