ومن غريب الأمر أن الطريق الذي أشرنا بسلوكه، والذي أبان العلم أنه لا طريق إلى تعلم اللغات سواه، هو الطريق الذي هدت إليه الفطرة وسلكته في تعليم الولدان لغات آبائهم، وتعليم الأجيال لغة أممهم، فالفطرة اصطنعت في تعليم اللغات طريق الحفظ والتكرار، والمرانة والاعتياد
ينشئ الطفل فيسمع أبويه وأهليه يتكلمون بمواضعات خاصة فيحفظها وتتكرر على سمعه، ويعتادها لسانه فتصير ملكة، وبذلك يحذق لغة قومه
كأن الفطرة قد علمت أن اللغة في الإنسان ملكة، والملكة لا تكتسب إلا بالتكرار فاستعملت ذلك في تعليم أمم الأرض لغاتها، ولم تخطئ مرة واحدة فتلجأ إلى طريق القواعد والقوانين لأنها لا تكسب الملكات
أما نحن فجهلنا ذلك، وأخذنا نعلم اللغة بالقواعد والقوانين، ولم نلجأ إلى تعليمها بالحفظ والتكرار، فكانت الفطرة أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الخطأ، وأثقب فكراً، وأسد نظراً، وكنا أقرب إلى الخطأ، وأبعد عن الصواب، وأعظم خرقا. وكانت الفطرة تعلم اللغة أثناء المعاملات اليومية من لعب وقضاء حاج، وبيع وشراء؛ أما نحن فقد أحطناها بالقوانين التي يفنى العمر ولا تفنى؛ فكانت مقتصدة أعظم الاقتصاد، وكنا مسرفين أشد الإسراف. كانت الفطرة تعلمها بالتدرج من الأسهل إلى الأصعب، ومن البسيط إلى المركب مراعية حال المتعلم، فتعطيه ما يناسبه ولا يجافي عقله. أما نحن فلم نراعي ذلك بل تعمدنا مضادته، فعلمنا القواعد التي هي فلسفة اللغة، تعلم بعد تعلمها، ومرتبتها في الوجود متأخرة عنها، فلم تظهر إلا بعد ظهور اللغة بأزمان. أقول علمنا القواعد قبل تعلم اللغة وجعلناها وسيلة إلى تعلمها، ولم نراع حال المتعلم فجئنا بأطفال الأقسام الابتدائية والتعليم الأولي، وأخذنا نعلمهم القواعد، ونعطيهم من العلم ما ينبو عن أذهانهم؛ فكانت جارية على مقتضى الحكمة، وكنا