نكاد أن نصور لأنفسنا صورة كاملة لمعظم النواحي الفكرية من المدنية الإسلامية، ولكن الناحية العلمية المحضة مجهولة بالنسبة لسائر تلك النواحي، فقل من أقدم على إثارة أبحاثها والغوص إلى أعماقها، وذلك لقلة ما بين أيدينا من الآثار في هذه الناحية بل لفقدانها، فلم يصل إلينا من هذه الآثار إلا أسماؤها وما تغني الأسماء عنا شيئا! نعم يمكننا أن نستدل بهذه الأسماء - التي كثيراً ما نجدها في أمثال كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة وتاريخ الحكماء للقفطي وغيرهما - على ما عالجوه في تلك العصور من المواضيع العلمية في الطبيعيات والرياضيات وما يلحق بهما.
على انه إذا كان لدينا شيء من هذه الآثار فأنى نجد من يستطيع أن يقدم على معالجة هذه المواضيع والناس على شطرين، فأما مثقفون ثقافة عربية حديثة يملون وينفرون من النظر في أشباه تلك الكتب (الصفراء) كما يسمونها لقلة عنايتهم بها واستبعادهم حصول الفائدة من مثلها لأنها (قديمة) ولأنها (شرقية)، وإما مثقفون ثقافة شرقية قديمة وهم بعيدو عهد عن النظر في المواضيع العلمية الخالصة، ولا تكاد تجد منهم من يقدر على فهمها وإعطائها حقها من العناية. فما أحوجنا إلى أولئك الذين سماهم الأستاذ احمد أمين الحلقة المفقودة، أعني الذي يجمعون بين الثقافتين الشرقية والغربية ويؤلفون مزيجاً من الحضارتين القديمة والحديثة.
قد كان الناس إلى عهد غير بعيد، ولا يزال بعضهم على ذلك، يعتقدون أن العلم بمعناه الحديث وأساليبه الحاضرة من حيث استناده على الحس والمشاهدة والتجربة والاستنباط هو من مولدات هذه العصور ومن مميزات المدنية الحديثة، ولكننا إذا تتبعنا الحركة العلمية في المدنية الإسلامية وجدنا فيها ما يملأ النفس إعجاباً وإكباراً بأولئك العلماء الذين كانوا مثلا أعلى للنشاط العلمي بجميع معانيه، فلقد كانت الفكرة العلمية نامية لديهم وبالغة من التجريد والتعميم درجة غير قليلة، فكانوا يقولون كما يظهر من آثارهم بالقوانين وبشمولها واطرادها ويسلكون في استنباطها واستخراجها الطرق المعروفة اليوم والتي تستند إلى المشاهدة والتجربة، وليس استعمال التجارب أداة للتحقيق العلمي مقصوراً على العصور