في إحدى السنين التي كان خلو الذهن فيها ظاهرة بادية في الشعوب، وأشغاله ظاهرة تبدو على الحكومات، والتي كانت فيها الطبيعة آمنة، وكان الناس من نحوها آمنين مطمئنين - في إحدى هاته السنين زرت أوربا، وأوربا كعادتها جمة النشاط، منصرفة إلى التجديد، والطبيعة باسمة حالمة يفيض قلبها بالحب وتزخر على جوانبها الأماني، فلم يرعني شيء كالألفة القائمة بين الحيوان والإنسان تقليداً ترعاه التربية العامة، ولا يغفل إلا بمقدار
وقد كان بيني وبين الطير والحيوان حديث ما أعذبه، فلم يكن في الجو ما يقصى الطير عن شجره والحيوان عن مأمنه. والطير والحيوان أحب الرفاق إلى الإنسان إذا أعوزته الرفاق، فهما أحفظ لسره، وأبقى على عهده، وأطوع لإرادته، ما دام كل شيء يجري معهما على سجيته
لم اقصد إليهما كما فعل التاجر هورن، فأقتحم عليهما الغاب والآجام، فأنا أعرف بالحدود من ألا أقف عند حد. بل إني حاولت أن أجتمع بهما وأنا آمن، وهما عديما الحيلة عديما الأذى. وهل في غير حدائق الحيوان ينشد المرء مثل هذا اللقاء؟ وإنه لمتعة للنفس، وفرصة للنظر والدرس، وساعة للتحصيل لا تجلب السآمة
وقد كنت أغشى حديقة الجيزة فيما مضى من الزمان، فإذا الظاهرة التي تسترعي انتباه من يعنيه الانتباه إلى علاقات المخلوق الطليق بالمخلوق الحبيس هي اضطهاد وتحفظ، اضطهاد من الزوار الذين لا ينون عن مضايقة الطير والحيوان كل في قفصه، وتحفظ من الطير والحيوان، إذ هو لا يقترب إلا حذراً، ولا يبتعد إلا متوجساً
وغشيت في تلك السنة التي ألمعت إليها إحدى حدائق أوربا العامة المترامية الأطراف التي يضل فيها السائر من دون خريطة، وتسعف فيها المركبات من كلت قدماه قلت: غشيت تلك الحديقة، فإذا الكلفة التي ألفنا أن تكون في حديقة عامة بين الطليقين من الإنسان والحيوان