مضت أعوام عديدة على ذلك اليوم الذي شعرت فيه بغتة بدوار الصعود الفكري، على أثر مطالعات كثيرة وتأملات عميقة في عزلة طويلة. وبدا ذلك على وجهي فسمعت طبيباً يسدي إلي النصيحة أن أترك كل شيء وأذهب من فوري إلى البحر، أستنشق الهواء وأغمض عيني بغير تفكير. لقد كنت أحسب التأمل كل شيء في حياة الأديب؛ وكنت اعتقد أن حياتي ستمضي قراءة كلها وتفكيراً على ذلك النحو وبذلك المقدار، فكنت استهول العاقبة وأتساءل عن النتيجة
ومرت الأيام فإذا بي أنصرف بعض الشيء عن المطالعة والتأمل. وإذا الأعوام تنفق في شيء آخر لم يكن في الحساب: هو البحث عن الجسم الذي تحل فيه تلك الأفكار الهائمة كالأرواح. هنا وضحت لعيني المعضلة. وفهمت أن التفكير في ذاته يسير، ولكن العسير هو أن أقيم (الفكرة) على قدميها كائناً نابضاً يتحرك ويسير. إن القليل من عمر الفنان هو الذي يبذل في التفكير الصرف، والكثير منه هو الذي يذهب في سبيل صنع ذلك اللحم والدم الذي ينبغي أن تسكنه الأفكار
إن (الطبيعة) أستاذنا الأعظم نحن الأدباء والفنانين، تفكر هي أيضاً، غير أنها لا تفكر (كلاماً) فهي تجهل (اللغات الحية)، ولكنها تفكر (مخلوقات حية)
(تفكير) الطبيعة (أسلوب). وإن طريقتها الواحدة في تركيب الكائنات جميعها: من عالم الجراثيم إلى عالم الأجرام لهي وحدها التي نقرأ منها تفكيرها. (الخلاق) في الفن أيضاً لن يستحق هذا الاسم حتى يصبح التفكير عنده مماثلاً لتفكير الطبيعة، فيملك تلك القدرة السحرية أو الهبة السماوية التي بها يخرج أفكاره من رأسه تجري لابسة أثواب الحياة
كذلك خالقو الشعوب وبناة الحضارات، كل عبقريتهم أنهم لا يفكرون (كلاماً)، وأن الأفكار والتأملات عندهم هم أيضاً لا تكتب كما هي ولا تقال، إنما ترى قائمة متحركة في صورة أمة ناهضة أو على شكل ثورة متفجرة
ذلك معنى (الخلق). وتلك هي (الأفكار) في لغة كل خلاق