ما أمتع الربيع وغصن الشباب رطيب وماء الحياة يجري! وما أشجاه والشباب يولي والرأس يشتعل والحياة تدبر! لا زلت أذكر أي مخاطرة عظمى كانت الحياة في تلك الأيام الخوالي، وقد اعتدنا أن نجوب معاً خلال باريس رائجين مع الصبا بقلوب نزقة ونفوس مرحة، يملؤنا الرجاء، وتحف بنا النعماء، دون أن نعير الدنيا التفاته أو نحسب لها حساباً.
سأقص عليك إحدى هذه المغامرات التي وقعت لي منذ أمد مديد وعهد بعيد، حتى يصعب علي الإقرار بصحتها والتسليم بما فيها. كنت في الخامسة والعشرين من عمري، ولم يمض علي في باريس غير عهد قصير. كنت أخرج كل أحد مجدا في البحث عن مخاطرة أو مغامرة وأنا ممتلئ شباباً وفتوة. والآن. . . ما الذي تشابهه أيام الآحاد؟ أيام مروعة يضيق فيها المرء ذرعاً بكل فكر يثبته أو يتحدث به وبكل صحب يرافقه.
استيقظت في ذلك الصباح مبكراً وفي نفسي هذا الإحساس بالحرية الذي يعرفه أولئك الذين يعملون طيلة الأسبوع والذين ينظرون إلى يوم الأحد كيوم راحة وحرية. فتحت نافذتي ورمقت الجو البهيج وحرارة الشمس الفائضة والعصافير المغردة.
ارتديت ملابسي على عجل، وخرجت لتمضية يوم في الغابة الحبيبة خارج باريس، وكانت المدينة كلها تلمع في ذلك اليوم المشمس، ووجوه المارين تفيض بالبشر والسعادة لحياتها وسط هذا الجلال الرائع، وانتظرت على شط النهر ذلك القارب الذي سيقلني إلى (سان كلو).
وانتظاري بهذا القارب بدا لي كأنه مخاطرة في نفسه، فقد تصورته آخذاً بي إلى نهاية الدنيا، إلى أمصار عجيبة جديدة. وشد ما ابتهجت عندما لمحته قادماً كقطعة صغيرة من السحاب أخذت تكبر تدريجياً حتى لاحت أمامي، ورست على امتداد الرصيف.
ركبت القارب فألفيت نفسي وسط رهط من المتنزهين الذين ينعمون بلذائذ الأحد ومتعه، ووقفت على سطحه أرقب الأرصفة والمنازل والأشجار وهي تتوارى عن العين، حتى خلفنا باريس وراءنا، وانساب بنا القارب إلى ماء هادئ ساكن، تحفه السهول وتقوم على