اليوم يا صديقي يوم شم النسيم! وشم النسيم في مصر هو عيد الطبيعة والناس؛ والناس الذين يعيدون هذا العيد هم سكان هذا البلد الأمين من كل جنس ونحلة؛ وهو بهذه الخصيصة يكاد لا يشبهه عيد من أعياد الأمم. فإن أعياد الأمم إما أن تقوم لذكرى دينية فتكون لأهل هذا الدين، وإما أن تقوم لذكرى وطنية فتكون لأهل هذا الوطن. أما عيد شم النسيم فهو عيد إنساني اشتراكي سمح، يفتح قلبه لكل دولة، ويخلص حبه لكل ملة، ويبذل أنسه لكل جنس. فالمصريون على اختلاف الأديان، والأجانب على تباين الأوطان، يتلاقون فيه على بساط الربيع إخواناً في المودة، أخداناً في السرور، يتساقون راح الأنفس، ويتطارحون حديث القلوب، ويتجردون من فوارق الدنيا ليقفوا أمام الطبيعة الصريحة أطهاراً من رجس الحياة، أحراراً من إسار المادة، يرتعون في الجنة التي خلق فيها أبوهم الأول، وينعمون بالصفاء الذي نشأت فبه أُسرتهم الأولى
هذه الخصيصة التي تفرد بها هذا العيد إنما اكتسبها من طبيعة هذا الوطن الأريحي الذي طبع بنيه وساكنيه على فيض نيله وخصب واديه ورحب صحرائه وصفو سمائه واعتدال جوه ووداعة طبيعته، فجعل المصري والرومي يعيشان في قرية، والمسلم والمسيحي يصليان في كنيسة، واليهودي والألماني يعملان في متجر، والتركي والأرمني يسكنان في دار؛ ثم يلح على هؤلاء جميعاً بالخلط والمزج والتوحيد حتى تتشابه الألوان، وتتعرب الألسنة، وتتقارب الطباع، وتتحد العناصر، فيدخلوا صرحاء خلصاء في هيكله النقي القوي المقدس
في هذا اليوم وحده من دون أيام السنة تغلق القاهرة دواوينها ومدارسها ومتاحفها ومصارفها ومتاجرها ومصانعها وحوانيتها؛ ثم تخرج إلى الرياض والخلوات، خروج الحجيج إلى عرفات؛ ولكنه حجيج وثني لا يؤمن في ذلك اليوم إلا بأفروديت وباخوس، فيتفيأون ظلال الروض، ويتشربون أشعة الربيع، ويستروحون أرج النسيم، ويجتلون جمال الطبيعة المتبرجة في الزهر والنهر، ويستوعبون أسرار الحياة المبثوثة في السماء والأرض، ويتطلقون من عقال الهم والوقار والكلفة، فيطيشون كالفراش، ويهتفون كالطير، ويطفرون كالأطفال، ثم تدركهم ضرورة الحياة فيجلسون للموائد حِلَقاً وسلاسل يتهنأون بضروب الآكال وصنوف الأشربة، حتى إذا تضلعوا شِبعاً وتحببوا ريا قرت فيهم فورة المرح فأووا