من قديم اختلف علماء البلاغة، أهي في اللفظ أم في المعنى، وقد عقد عبد القادر الجرجاني فصلاً ممتعاً في آخر كتابه دلائل الأعجاز ذكر فيه حجج الفريقين، وقد كان فريق يرى أن المعاني مطروحة أمام الناس، والبليغ من استطاع أن يصوغها صوغاً جميلا، وإنّما يتفاضل الأدباء بجودة السبك وحسن الصياغة، ويرى الفريق الآخر أن المعاني هي مقياس التفاضل، وإنّ الأديب يفضل الأديب بغزارة معانيه، وجدة أفكاره، وأظن أن الزمان فصل في هذه القضية، إذ أصبح واضحاً أن حسن الصياغة، وجودة المعاني، عنصران أساسيان لابد منهما للأديب، وان من تجرد من أحدهما لا يسمى أديباً بحال، وان المثل الأعلى للأديب معان غزيرة سامية، وصياغة جيدة محكمة.
غير أنّ هناك - ولا شك - مواضع تراعى فيها المعاني أكثر مما يراعى فيها اللفظ وصياغته، كفصول النقد الأدبي، والمقالاتالعلمية الأدبية والمقالات التاريخية الأدبية؛ وتراجم الأشخاص ونحوها، فالغاية من هذه الموضوعات ليست اللذة الفنية، وإنّما الغرض الأول هو المعاني والحقائق، فيجب أن تكون غزيرة فياضة، وكل ما نتطلبه فيها من اللفظ أن يعبّر عن هذه المعاني في دقة ووضوح، أمّا القصد إلى محسنات البديع ومجملات الصناعة فلا داعي له، وربما كان إفراط الكاتب في هذه المحسنات حجباً للمعاني عن الأنظار، ومضلة للعقول عن الوصول إلى حقيقة المعاني، وهي أقوم ما في هذه الموضوعات.
وهناك ضرب آخر من الأدب كالشعر والقصص فيه مراعاة اللفظ وحسن السبك في المنزلة الأولى، ولست أعني أن الحقائق والمعاني فيهما مجرّدة من القيمة بل هي كذلك من مقدماتهما، والشاعر الذي يجيد السبك ولا يجيد المعنى ليس من شعراء الطبقة الأولى، وخير الشعراء من صح حكمه، واتسعت تجاربه في الحياة. وكان له علم عميق في كثير من الأشياء التي حوله ثم صاغ ذلك كله صياغة جميلة، وهذا الأدب الصرف كالشعر والقصص والقطع الفنية الأدبية، ليس الغرض الأولى منه نقل المعاني كما في الصنف الأول، وإنّما الغرض منه إثارة عواطف القارئ والسامع.