منذ القدم اقتسمت بلاد العرب أدبها الأصيل، فكان لكل قطر شعراؤه وأدباؤه. وكان الشعر في آثار العرب الثقافية أول ما جاد به دهرهم وأطل من آفاقهم، فكان في الجاهلية موزعاً بين قبائل وعشائر لكل منها شاعرها الذي يحمي ذمارها ويروى أخبارها، وكان لنجد شعراؤها كما كان للحجاز أندادهم من أهل الفرائح والبيان. بيد أن الأدب الذي انتهى إلينا منهم والشعر الذي أثر عنهم لم يكن بتلك القسمة في عهود الجاهلية متميزاً بعضه من بعض، إذ كان نسيج القصائد في تلك الفترات متشابهاً، ولم يستطع دراس الأدب من قدامى ومحدثين أن يكتنهوا الفروق بين أولئك الشعراء، فالجزالة والفحولة حتى في شعر النساء كانت شركة بينهم، وسلامة الطبع والجبلة موهبة فيهم، والسذاجة والبعد عن التكلف من سجاياهم، أما الفروق الفنية فقد دبت في الشعر والنثر بعد الإسلام، فكان شعراء أمية السياسية في طبيعة قصائدهم غير شعراء الحجاز الغزل. وقضي الأمر في قسمة الأدب بين البلاد العربية في العصور العباسية. فظهرت الميزات والعلامات بمياسم أكثر انطباعاً وأشد وضوحاً، فإذا للعراق أدب فياض شاعت في مجاليه مطارحة الندامى وأغاني القيان ومجون الشاربين، وإذا للأندلس طائفة من الشعراء انسرح خيالهم، ورق شعورهم، فابتدعوا الموشحات والمقطوعات، وخلعوا على أدب العرب وشاحاً هفهافاً، وفي نسمات الوادي الكبير، أطلقوا في ثناياه أعنة الخيال من روح الأدب الغربي الذي رف عليهم ومن صوب الأسبان أو عبر نحوهم من جبال (البيرنيه).
وكان ثمة شعر مطبوع وأدب بهيج الأوان، نجما في آفاق الشام، وقد نمتهما دارات غسان ودعتهما ضفاف بردى، ورفت بهما أفانين (جلق) بغوطتها الخضراء كيوم العصابة التي درَّ درها ونادمها حسان في الزمان الأول، فقد عرفت الشام بلون من الشعر سماه المعاصرون من عرب ومستشرقين بالطريقة الشامية، وهو ضرب من البيان ظهر في آثار أبى تمام والبحتري وأبى العلاء فيه اللفظ البليغ والصناعات ذوات التحاسين، حتى بات شعر الشام، كعصب اليمن، أفوافه مزركشة ومطارفة منمنمة، فكأنه نمارق على أرض أو ديباجة على جدار