للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المُعْجَم السياسي

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وحدثني صاحب سر (م) باشا قال: كنا في سنة ١٩٢٠ وهي بنت سنة ١٩١٩؛ وقد اجتمعت الأمة على مقاطعة لجنة (ملنر) لا تكلِّمها فجعلت السكوت ثورة. وأعلن الشعب أن كلمته في لسان الوفد ينطق الوفد بها نطق النبي بما يوحى إليه، فما يكون لأحد غيره أن يقولها ولا أن يقول أُوحي بها إليّ. وأبى اللورد ملنر أن يصدق أن للمصريين إجماعاً يُعتد به، وأنهم دخلوا في السياسة دخولاً ثابتا فرسخوا فيها، وأنهم أصبحوا مع الإنكليز كالإنجليز الذين يقولون عن أنفسهم في مثلهم السائر: ينبغي أن نكون أحراراً مثل أعمالنا.

وزعم اللورد لنفسه أن هذه الأحزاب المصرية لا يتفق منها اثنان أبداً إلا كان بينهما ثالث يختلفان عليه وهو الطمع في مناصب الحكم، واستخرج من ذلك أن المصري والمصري كشِقَّي المِقراض لا يتحركان في عمل إلا على تمزيق شيء بينهما؛ فإن لم يكن بينهما (الشيء) لم يكن منهما شيء.

وذهب الرجل يتظنى ويحدس على ما يخيل له الظن، وقد حسب أن إنكلترا يحق لها أن تقول في المصريين ما يقول الله في خلقه كما ورد في الأثر: إنما يتقلبون في قبضتي؛ وكما تقول اليوم لأهل فلسطين من العرب: (إن يَشَأ يُذْهبْكم ويَأتِ بخَلْقٍ جديد). . . . وكان اللورد هذا رجلاً ممارساً لمشاكل السياسة، دخالاً فيها، داهية من دهاة القوم، له في قلبه عينان وأذنان غير ما في وجهه كحذاق السياسيين؛ وهو يعرف أن سياسة قومه لا تدخل في شيء إلا دخول الإبرة بخيطها في الثوب، إن خرجت هي تركت الخيط وقد جَمَعَ وشد. . . . فأراد أن يمتحن مذهب المصريين في إجماعهم على الاستقلال، وقدر أنه واجد من الفلاحين عوناً ومادة لمكرِه السياسي، وحسب الوفد صورة جديدة من طبقة (الباشاوات) القديمة، ينزلون من الشعب منزلة اليد التي تمسك القيد من الرِّجْل التي فيها القيد، ويضعون معنى كلمة الحاجة في كلمة السياسة، ويقولون الوطن وهم يريدون الجاه، ويقيمون الشعب كالسُّلم ينتصب قائماً بأيديهم ليحمل أرجلهم الصاعدة عليه.

فجاء اللورد إلى مصر، فوجد الأمة كلها قد حَذِرت منه وتيقظت له، حتى نصحه رشدي باشا بأنه لن يجد في مصر هرَّة تفاوضه؛ ولكنه كان مستيقنا أن أذُن السياسة الإنكليزية

<<  <  ج:
ص:  >  >>