في ذمة الله نبعةٌ فواحة من أرومة الحسين، ذوت في ازدهار الربيع وغيَدان الصبى وفوران الأمل، ثم أسقطها الجفاف والري موفور والخصب شامل!
كان الملك غازي - تغمده الله برضوانه - مهوى قلوب العرب ومعقد رجاء العراق؛ لأن شبابه يرافيء شباب النهضة، وطموحه يجاري طموح العروبة؛ ولأنه من بعدُ وريث فيصل باني العروش وقائد الثورة. وكانت تباشير الصباح المسفر تنبئ عن الضحى الجميل والنهار الصحو، لولا أن للقدر أحكاماً لا تجري على أقيسة العقول ولا تسير على رغائب الأنفس
عرفت خليفة فيصل وهو لي عهد، ولم أنل شرف لقائه وهو ملك؛ لأنني تركت العراق وأبوه لا يزال على عرش الرشيد يدبر الأمر بذكاء على ودهاء معاوية. وكانت جلساتنا الليلية في حديقة البلاط المزهرة المقمرة، حيناً في حضرة الملك وحيناً في حضرة خاله، تكشف لي قليلاً قليلاً عن مصاير هذه النفس الرغيبة الطيِّعة التي نبتت في هجير مكة وأزهرت في ظلال بغداد، فكنت لا أنفك منها أمام طبيعتين مختلفتين: طبيعة تتأثر بحاشيته فتسامح وتساير وتمرح، وطبيعة تتأثر بأبيه فتصعب وتسمو وتطمح. ولكن المقرر في الأذهان كان أن الشبل سينتهي بالضرورة إلى طبيعة الأسد مهما أثر فيه طبع الناس ونال منه قفص الحديقة
قلَّ في الشباب الملكي من كان كغازي في سماحة نفسه وسجاحة خلقه ونبل شعوره وسمو تواضعه وظرف شمائله. وتلك هي الصفات الهاشمية التي تنتقل في بني الحسين بالإرث، وتقوى إذا ساعدتها القدوة وساعفتها البيئة. ولكن ما ورثه هو عن أبيه صقر قريش من الجناح الزَّفاف، والبصر النفاذ، واللب الحصيف، كان يتيقظ رويداً رويداً مع الزمن والخبرة؛ فلم يكن بعدُ قد توثقت آرابه للاضطلاع بالعبء الفادح الذي ألقي على ظهره فجأة. والعبء الذي كان يحمله فيصل من أمور العراق هو العبء الذي قسمه الدستور على سلطات الدولة الثلاث فجمعه هو على عاتقه. من أجل ذلك لم يضع غازي يده من سياسة العراق العليا موضوع يد أبيه للتعديل والموازنة، وإنما تركها في أيدي الزعماء تجري