يعتبر سقراط أول من وضع الأسلوب الحواري الاستنباطي أسلوب التهكم الذي يقف نفسه فيه موقف الجاهل، ثم يسوق أسئلته البريئة اللاذعة التي تصير بالمسئول إلى حال التشكك والحيرة؛ غير أن سقراط لا يلبث أن يستدرج محاوره إلى الغاية الخفية التي يضمرها، والتي يريد كشفها بأسئلته ونقاشه، فيتجلى الأمر ويصل إلى النتيجة، ولا يجد محاوره مفراً من التسليم له بوجهة نظره من غير أن يقصد إلى ذلك
ولقد نهج أفلاطون فيما كتبه - ولاسيما في جمهوريته ومحاوراته - منهج أستاذه سقراط: ففي (الجمهورية) مثلاً يعالج مبدأ العدالة في مدينته الفاضلة بأسلوب استنباطي حواري على لسان سقراط نفسه. غير أن الحديث يتشعب به فينتقل من موضوع إلى موضوع، ومن بحث إلى بحث، حتى يخيل لقارئه أنه يكاد يفقد الفكرة التي بدأ بها موضوعه الأول، ولكن لا يلبث حتى يعود إليها
ومما عالجه أفلاطون في (الجمهورية) موضوع التربية. وآراؤه فيها - وإن كانت قد أصبحت قديمة كبعض فلسفته - تستحق إيرادها هنا كتمهيد لتلك المحاورة الخيالية التي سأنقلها للقراء من الإنجليزية، والتي دارت بين أحد المربين الإنجليز وبينه حين بعث منذ أربع سنوات، بعد أن مر على وفاته ثلاثة وعشرون قرناً
يرى أفلاطون في (الجمهورية) أن هناك ثلاثة أنواع من الناس: نوع وهبه الله الحكمة والذكاء، وهؤلاء يربون إلى أن يصلوا إلى مرتبة الحكام الفلاسفة، وهم الساسة المفكرون، ذوو الأمر والنهي والرأي المطاع؛ ونوع دونهم في الذكاء والقدرة الفلسفية، وهؤلاء يربون ليكونوا مساعديهم في الإدارة والتنفيذ وليكونوا رجال الجيش الذين يحفظون النظام داخل الأمة ويذودون عن حياضها في الخارج؛ ونوع في المرتبة الدنيا غير الموهوبة التي لا تصلح إلا للزراعة والتجارة والصناعة، وهؤلاء يكوّنون جمهرة الشعب وعامته
والمحاورة الخيالية التي سأوردها هنا من وضع الأستاذ كرُصمان بجامعة اكسفورد. وقد أذاعها من محطة لندن ضمن سلسلة أحاديثه التي تشمل أيضاً: أفلاطون والديمقراطية