أصبحت من أيام فوجدت رأسي من ثقل كأنه حجر رحى ركّب بين كتفّي، وكأنه من الصداع بدقّ من داخله بالداقّ، وكأن جفنيّ قد شدَّ إلى الأرض فما أفتحهما حتى يعودا فينطبقا، ووجدت في حلقي إذا أبتلع ريقي مثل حزَّة الشفرة، وفي كل مفصل من مفاصلي ألماً، وفي أعصابي من الخَدرَ مثل مشي النَّمال، ووقفت فاصطكت ركبتاي، ودِير بي، فعدت إلى الفراش. . .
ولم يصدق أهل الدار أني مريض: لأنهم لم يروا علىَّ لمرض أثرا، ولأن المريض عندهم إنما هو الشاحب المهزول البادي العظام، وأكَّدت لهم القول فلبثوا مكذَِبين. يعتقدون أني أتدلل عليهم وأني أتكاسل وأوثر الراحة والاستمتاع برعاية المرض، على إرهاق النفس بمعالجة نسوان المحكمة، وصبيان المدرسة. . . ويئست من إقناعهم بمرضي فأعرضت عنهم وتشاغلت بالتفكير.
فكرت في هؤلاء الناس إذا كانوا لا يميزون المريض من الصحيح، والمرض شئ ظاهرة آثاره، بادية إمارته، فكيف يميزون الطيب من الخبيث، والصالح من الطالح؟ وكيف يقيسون أقدار الناس، وكيف تكون عندهم موازين الرجال؟ أو لا يخطئون في أحكامهم على الناس خطأ أهلي في الحكم على مرضي، إذ يقيسون المرض بالشحوب والهزال، ورب شاحب هزيل ما فيه إلا جلد على عظم وهو الصحيح المعافى الأيد القوى، وربّ سمين يكاد يَنْفَزر من كثرة الشحم واللحم، وهو مَحْمَل أمراض وهو الضعف مجسّما والعجز؟
وفكرت فيَّ أنا، كيف أحكم على الناس؟ فذكرت أنه يدخل علىّ الرجل لا أعرفه فأحكم عليه بادي الرأي بثيابه، فان كان يلبس العمامة والجبة أنزلته من نفسي منازل العلماء، وإن كان بزي الفلاحين أحللته محال الفلاحين، فإذا تكلم بدلت رأي فيه وحكمت عليه بكلامه، فإذا عاملته كان الحكم عليه بمعاملته، فهذه عدة مقاييس: الثياب والكلام والمعاملة، فأيها هو