جلس أبو جندل بن سهيل بن عمرو في غرفته، وقد طغى الليل على مكة، فلفها برداء من الصمت والسكون؛ فما تسمع فيها إلا همسات الريح، وحديث النجوم؛ وحفيفاً خفيفاً تبعثه أشجار النخيل من أعماق الوادي، كأنها بث الشكاة، أو نجوى المحبين
واستسلم الفتى الجريء إلى نفسه؛ وأسلس قياده إلى الذكريات تحمله على جناحيها الرفيقين. . . فتخرج به من هذا الأسر الذي أراده له أبوه، واضطره إليه، لتطوف به في دنياه الحبيبة من الأرض، حيث يشرق النور، وتشع الهداية، ويتنزل الوحي، ويعيش النبي الكريم في طائفة من المهاجرين المجاهدين، والأنصار المدافعين، والصحابة الذين آمنوا بهذا الدين؛ فوهبوا دمهم له، وهجروا عشيرتهم من أجله. . .
وعرضت لعينيه صور، وتدافعت في نفسه أخيلة؛ واتقد في قلبه الحنين؛. . . وبكى. . . بكى لأنه بعيد عن رسول الله؛. . . وأين منه يد رسول الله تمسح آلامه، وتبارك إيمانه، وتشع في قلبه الراحة والهدوء؟!. . . إن بينه وبينه لآماداً بعيدة؛ ولقد صدوه عن هجرته إليه، وأقاموا من دونه الأرصاد والرقباء؛ ورموا به في هذه الغرفة الضيقة، لا يملك أن يخرج منها أو ينصرف عنها
وتناثرت دموعه على خديه، كقطرات الندى الناعمة. . . فبللت الشعرات المبعثرة على أطراف وجهه، وفي أسفل ذقنه، على غير نظام، كالنبت السائب. . .
ومضى في هذه التأملات العميقة، واستغرق فيها. . . وعاش ساعاً من الزمن، في دنيا الذكريات، وظلال النبوة، وعبق الإسلام. . . وأحس النشوة تجري في عروقه، وتسري في دمه، ورفع بصره إلى السماء، يسأل الله العافية في دينه أن يفتنه عنه أهله وذوو قرباه. . .
ولم يطل به هذا السكون، فقد سمع حركة خفيفة في صحن الدار؛ فقام يسترق الخطو إلى النافذة. . . فإذا فتاة في ريق الشباب ومقتبل العمر، تشق ظلام الليل باشراقتها الرائعة، فيرى لعينيها بريقا، ولجبينها وضاءة، وإذا هو يتحسس في صوتها صوت أخته، فيقبل على الباب يفتحه؛ وما يلبث أن يتبينها حتى يرتمي يقبلها، وترتمي تقبله، في حنان الأخوة،