كنت سائراً يوماً وأحد رفاقي في شارع (بك اوغلي) أحد شوارع الآستانة الجميلة. وكان رفيقي على عادته يحدثني أحاديث مختلفة، يحدثني عن نفسه وعن غيره أحاديث منها ما يقبل ومنها ما يمج ويرد. وبينا هو يهدر في حديثه وقف فجأة وصاح:
- إلى أين؟
التفت فإذا هو يكلم رجلاً طويل القامة محدودب الظهر، وكأنه قد تعب من الحياة؛ أسمر اللون، قد طال شعر رأسه ولحيته حتى خرجا عن الحد المألوف، عليه بذلة لا يعلم إلا الله ما لونها، قد أثر فيها الغسل الكثير حتى اختلطت ألوانها وتهلهل نسجها.
فقال له رفيقي:
- ألا يزال الحال على ما نعهد؟
فهز الرجل رأسه علامة الإيجاب وارتسمت على ثغره ابتسامة الترح لا ابتسامة الفرح.
فقال له رفيقي:
- بارك الله فيهم. وانصرف عنه
ثم ألتفت إلي وقال هل أقص عليك قصة هذا الرجل؟
فقلت له على مضض:
- هات ما عندك
فأخذ يقص علي قصة الرجل، يقصها بصورة مونقة، لها من إشاراته اللطيفة ومن بيانه البديع خير حلية وأبدعها. قال: هذا الرجل من لداتي في السن، ومن رفاقي في العمل، كنا مأموري حساب في مصنع حديدي ونحن في نهاية العقد الثاني من عمرنا، وكان مرتبه الشهري أربعة دنانير، ولكنه كان بالرغم من قلة المرتب ذا زي حسن وهندام جميل، فإذا ظهر زي كان أسبق الناس إليه. كان زيه أحسن أزيائنا جميعاً، وكان يفوقونا طراً في