للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٥ - دفاع عن البلاغ]

آلة البلاغة

آفة الفن الكتابي أن يتعاطاه من لم يتهيأ له بطبعه ولم يستعن عليه بأداته. وأكثر المزاولين اليوم لصناعة القلم متطفلون عليها، أغراهم بها رخص المداد وسهولة النشر وإغضاء النقد، فأقبلوا يتملقون بها الشهرة، أو يُزَجون بها الفراغ، أو يطلبون من ورائها العيش، وكل جَهازهم لها ثقافة ضحْلة وقريحة مَحْلة ومحاكاة رقيعة؛ ومن هنا شاع المبتذل وندر الحر، ونفق الرخيص وكسد الغالي، وكثر الكَّتاب وقلت الكتابة

وادعاء الكتابة داء لا ينتشر إلى حين تضعف السلائق وتفسد الأذواق وتطغى العامية، فيصبح التفيهق علماً، والشعوذة فنّاً، والثرثرة بلاغة، واللحن تجديداً، والركاكة رقة. وفي مثل هذه الحال قال صاحب المثل السائر: (ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طامعاً في هذا الفن مدعياً له على خلوه من تحصيل آلاته وأسبابه. ولا أرى أحداً يطمع في فن من الفنون غيره ولا يدعيه. هذا وهو بحر لا ساحل له، يحتاج صاحبه إلى تحصيل علوم كثيرة حتى ينتهي إليه ويحتوي عليه. فسبحان الله! هل يدعي بعض هؤلاء أنه فقيه أو طبيب أو حاسب أو غير ذلك من غير أن يحصل آلات ذلك ويتقن معرفتها؟ فإذا كان العلم الواحد من هذه العلوم الذي يمكن تحصيله في سنة أو سنتين من الزمان لا يدعيه أحد من هؤلاء، فكيف يجيء إلى فن الكتابة وهو ما لا تحصل معرفته إلا في سنين كثيرة فيدعيه وهو جاهل؟)

وعجبُ ابن الأثير لن ينقضي حتى يعتدل الزمان بأهل العربية فتنضح الحدود، وتستقيم الموازين، وتصح الأقيسة، فلا يتدخل أعجمي في نسب آل البيت، ولا يجري حمارٌ في حَلبة الكميت!

أما بعد فإن آلة البلاغة الطبع الموهوب والعلم المكتسب. والمراد بالطبع ملّكات النفس الأربع التي لابد من وجودها في البليغ، ولا حيلة في إيجادها لغير الخالق. وهي الذهن الثاقب، والخيال الخصب، والعاطفة القوية، والأذن الموسيقية. فإن كنت على يقين جازم من وجود هذه الملكات في نفسك فامض على ضوئها في طلب هذا الفن فإنك لا محالة واصل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>