ولنقرأ الآن صفحة أشد متعة، تتعلق بأمر ذي شأن عند الأديب، ذلك هو النقد، نقد آثاره بنفسه، ونقد الناس آثاره. والأدباء في هذا الأمر مختلفون متباينون. فهذا تهيجه الكلمة الواحدة فيثور لأخف نقد ولا يرضى عنه، وذاك لا يثور ولا يحفل بما قيل. وهؤلاء أناس يستقبلون أروع الآثار بنقد لا نقد فيه، وأولئك يستقبلون أهون الكتب بمدح وتقريظ وكلٌ يكتب عن هوى في نفسه أو غرض لديه فيسف ولا يعلو، ويتجنَّى ولا يقدر، كل ذلك لغرضه وحاجته، وقديماً قال الصوفيون (المرض في الغرض).
اسمع النقد الذي استقبلت به قصيدة كيتز المسماة (آنديميون) أروع قصيدة لهذا الشاعر، التي يقولون إنها تحوي أبياتا فرائد من الشعر الإنكليزي.
لقد كتب ناقد مجلة يقول: لقد سرق هذا الشاعر أفكار السيد هنت (وهو صحافي وشاعر معروف) وادَّعاها لنفسه. ولكنه كان أشد غموضاً منه، وهو جامد الطبع ينحت من صخر. .)
فماذا أبقى هذا الشاعر لكيتز؟ سرَّاق أفكار، وجامد الطبع ينحت من صخر! لم يبق له شيئا إذ ذاك. ولكن الناقد يمضي ويمضي معه غرضه الذي دفعه إلى هذا النقد الغث، وتبقى القصيدة وحدها خالدة لروعتها وعظمتها.
وحين أصدر الشاعر الأمريكي (ويتمن) ديوانه الخالد (أوراق العشب) قال النقدة عنه إنه مشابه كلام العوام، مفعم بالحماقات؛ وتطاول آخرون فقالوا ما ليس يُقال.
على أن هذه النّقدات ما أثرت في الشاعر ولا أبِهَ لها. وظَّل يعمل حتى أدرك الثالثة والسبعين من عمره. أما كيتز المسكين، فقد مات في السادسة والعشرين، وكان من سبب موته يأسه الشديد حين قرأ ذلك النقد السخيف.
شتان بين هذين الشاعرين! ولأن النقد غير السباب والتعريض. لقد كان عقله ذا سلطان على نفسه. أما كيتز فقد كانت نفسه الرقيقة أعظم من عقله، فتغلب عليه اليأس، وأضناه ما سمعه من سباب. وهكذا يكون النقد سبباً للأحياء ويكون أيضاً سبيلا للموت.